مقالنا اليوم هو من قصص الواقع والزمن الجميل الذي غادرنا للأسف، وربما إلى غير رجعة، وهو بعيد عن السياسة وبعض من سياسيي اليوم الذين لم يجلبوا لنا إلا الويلات والحروب والدمار.
ما سأسطره لكم سادتي هو ليس قصة في مسابقة القصص القصيرة، أو سيناريواً معداً لمسلسل أو فيلم درامي، بل هي حقيقة سجلها الزمن في سفره وصفحاته، تحكي لنا طيبة أهلنا ومراقبتهم لله في سرهم وعلانيتهم، مما دفع وأجل ببركتهم نزول البلاء والمحن والفتن إلى حين..
فتحت عيني وأنا يتيم الأب فقد رحل والدي عن هذه الدنيا وأنا لم أشعل الشمعة الأولى من عمري، وتكفلت والدتي المسكينة رحمها الله المسؤولية في رعاية العائلة، وكانت الحياة في حينها بسيطة في خمسينات القرن الماضي، ولا يوجد شيء اسمه توظيف النساء ولا الإعانة الحكومية ولا الجمعيات الخيرية التي تتكفل بالأرامل والأيتام، لكن كان هنالك التكافل المجتمعي والأسري والعشائري في أبهى وأحلى صوره.
ولكون أن جل الأسر كانت عفيفة مقتنعة برزقها، ولا تقبل الصدقة ولا يأخذها إلا مستحقها فعلاً، فكان الناس يتكسبون الحلال ولا يوجد شيء اسمه عالة أو بطالة.
وبالرغم من تكفل عمي بالأيتام الصغار، لكنه كان أيضاً يعيل عائلة وبالكاد يقوم بحملهم، فآلت الأم الحنون تلك المربية الفاضلة أن تتقن مهنة منزلية ليعيش الأيتام في بحبوحة وتعلمت أن تخيط الملابس النسائية في البيت بعد أن باعت جزءاً من حليها وجلبت بسعرها ماكينة خياطة، ومازلت أتذكر نوعها، فكانت يدوية الصنع وتعمل بالقدم لتدويرها واسمها «سنجر» ألمانية المنشأ، وكانت والدتي تسهر الليل إلى صلاة الفجر لتؤمن معيشتنا وفي النهار تقوم على راحتنا رحمها لله ورحم أمهات المسلمين.
وبعد بلوغي العام الخامس من عمري فتحت عيني على عادة تجذب الأطفال وشيء اسمه المصروف اليومي، وهو متفاوت حسب عمر الأطفال، فقررت الوالدة أن تخصص لي مبلغاً قدره خمسة فلوس في اليوم، وكنت استيقظ مبكراً واقضي حاجيات كثيرة في المنزل لأفلح بها، وإن زاد النشاط والتكليف وربما التملق للوالدة كوني الطفل الصغير المدلل آخر العنقود، فقد يقفز المبلغ ليصبح عشرة فلوس، وربما تعادل مائة فلس بعملتنا اليوم، فأطير بها إلى البقال فرحاً، وكان هو الوحيد في المحلة القريبة من المنزل، وهو رجل طاعن في السن مازلت أتذكر اسمه «عمو إلياس»، وعندما أذهب لدكانه البسيطة أرتد خائباً مكسوراً لأن أغلب الحلوى سعرها يفوق الخمسة فلوس، وكان باستطاعتي شراء بعض ما يحلو لي عندما أدفع العشرة فلوس أو أشتري الحلوى غير المحببة لي ذات الخمسة فلوس المقررة، حتى لاحظت أن بعض أطفال الحي ينتظرون غفوة ذلك العم المسن ويأخذون خلسة من بسطته الحلوى غالية الثمن ويضعون نقودهم البخيسة ويهربون..
فأتقنت نفس الطريقة وجربتها ونجحت في اجتيازها وفرحت فرحاً شديداً دون أن أعلم في تلك السن الصغيرة أن هذا العمل هو سرقة وحرام، واستمررت على هذا المنوال يومياً واستمرأته زهاء الثلاثة أعوام حتى دخلنا المدرسة، وذهبنا لكتاتيب تعلم القرآن الكريم والحديث النبوي في السنة الثامنة أو التاسعة من عمر الزهور، فانتهرت بعدها وأقلعت عن تلك العادة الذميمة، وعاهدت الله إن بقيت حياً وبقي ذلك الرجل الطيب أن أسدد له ما بذمتي مع أول راتب أتقاضاه أو أسلمها لورثته إن توفاه الله..
وبعد بلوغي سن الرابعة والعشرين وبعد تخرجي من الجامعة والتحاقي بالوظيفة ومع أول راتب تقاضيته أردت الإيفاء بعهدي ووعدي..
ودعوت ربي أن يكون «عمو إلياس» على قيد الحياة، وفعلاً ذهبت ومعي جميع راتبي الشهري غير منقوص وكان على ما أذكر مائة وعشرين ديناراً وكان في العام 1979، وكان مبلغاً في حينها مغرياً، فذهبت إلى تلك المحلة القديمة التي غادرناها منذ أمد بعيد، وإذا بي أفاجأ بنفس الدكان على بساطتها، وذلك الرجل البركة يجلس على كرسيه المتواضع، وأمامه بضعة رفوف قد صف عليها بضاعته التي تغيرت مع تغير الشركات المنتجة، لكنه قد خف سمعه وضعف نظره ونحل جسمه فعرفته بنفسي وبصعوبة بالغة تذكرني، وربما قد تجاوز التسعين من عمره، وخاطبته بصوت عالٍ وهو بالنسبة لحاله همس وقلت له يا عمي أريد أن أبرأ بذمتي أمام الله من عظيم ذنب اقترفته بحقك!!
فقد كنت لسنين مضت وأنا طفل ألتقط من دكانك ما يحلو لي من الطيبات دون وجه حق وكنت أنتظر يومياً غفوتك لأقترف جرمي فجئتك اليوم بمرتبي هذا كله أضعه بين يديك وأرجو منك العفو والمغفرة وأن تدعو الله لي أن يكفر عن ذنبي..!
فما إن وضعت تلك الدنانير بين يديه حتى انتفض متكئاً على عصاه، وقال بصوت متكسر لقد جرحتني يا ولدي، وتلفظت بكلام صعقني، وكشفت سراً بيني وبين ربي ما كان ينبغي لك أن تتكلم به، قلت له وأنا مندهش: عماه أي صعق وأي سر تتكلم أنت عنه؟ قال لي يا ولدي: أتتوقع أني كنت لا أعلم ما كنت تقوم به أنت وبعض أيتام الحي؟ والله إني كنت أصطنع النوم حين أراكم تقبلون علي حتى تأخذوا من دكاني ما يحلو لكم، كيف أستطيع أن أقهر يتيماً وأنهر سائلاً وقد نهانا ربنا عن ذلك؟! ألم تسمع قول الله تعالى تباركت أسماؤه «فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر»؟
يا ولدي كما تعلم فأنا رجل فقير، لا أستطيع أن أزاحم الأغنياء في إحسانهم، وأردت بصنيعي هذا أن أكون ككافل اليتيم لضيق ذات اليد، وما فعلت ذلك إلا تقرباً لله، ولعل الله يطلع على عملي وأكون أنا والنبي كهاتين وأشار بإصبعيه على أبواب الجنة، يا ولدي ضع دنانيرك في جيبك فإني أطمع بما في يد الله فهي خير لي من دنانيركم، ولا تحرمني من مقعدي في الجنة، وأرجو منك أن تسترني يا ولدي ولا تقص ما حدث بيننا وأنا في نهاية عمري فلا تهتك ستري وتفضحني، وأنا مصدوم من كلامه وأنهى كلامه: الله مطلع على العهد بيننا. فأعطيته العهد والوعد، لكني قد صعقت مثله أيضاً بموقفه الإيماني الذي يقترب من طراز السلف الأول من الأمة بالضبط.. وقد احتفظت بالقصة تلك وبالحوار الذي دار بيني وبين ذلك الرجل المبروك الذي انتقل إلى جوار ربه بعد أقل من عام على ذلك اللقاء، ولم أقصه سوى اليوم وبعد مرور ما يقارب 4 عقود ومن منبر جريدة «الوطن».
ولم أقص تلك القصة إلا لنقل الفارق الهائل في التعامل مع الأطفال والأيتام اليوم الذين شردتهم الحروب وحالهم يبكي الحجر والشجر وأنا أشاهد القسوة التي يتعامل بها ساسة اليوم مع الأطفال وما جرى على الطفل السوري عمران يختصر المشهد والمقصد.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.