- التطرف حالة ثقافية تبعد المجتمع عن تحقيق أهدافه وطموحات شعبه

- المجتمع العربي بحاجة دراسة واقعه في سياق العلوم الإنسانية والعلمية والتقنية

- الشعوب العربية لديها إمكانات عقلية وذهنية تساعدها على البحث والاستدلال



- العرب بحاجة لمراجعة وممارسة النقد الذاتي ومعرفة دورهم في محيطهم

..

د. فهد حسين

إن الارتحال إلى الماضي والولوج إلى التاريخ، لا يعني الالتزام بتلك الذهنية التي بنت مجتمعها وفق مجموعة من المفاهيم والتصورات، بل ينظر إلى هذه المفاهيم بعد الفحص والدرس النقدي باعتبارها مدخلاً يمكن أن يسهم في بلورة وعي جديد لعالم ومجتمع وحياة تختلف كثيرًا في تكوينها الاجتماعي والثقافي والمعرفي وفي أنماط سلوك أفرادها، وفي مستوى العيش الاقتصادي والتطلع العلمي.

وحين نطلب من الثقافة بوصفها وعيًا وتكوينًا لحضارة أن نفكر بأزمنة المشهد الثقافي وبما يحمله من معطيات وتحديات، وما يتصف به أو يتميز به إن كان علواً أو هبوطاً، والابتعاد أو التقليل من ربط حياتنا الثقافية والأدبية والحضارية بدول سياسية كما كان في الماضي، حين نقول الأدب الأموي، الأدب العباسي، الأدب الأندلسي، أدب المماليك وهكذا، عدا ما جاء من أدب قبل الإسلام فسمي لدي الكثير بالعصر الجاهلي، وإن كان لدي تحفظ على التوصيف، إلا أن هذا الأدب ارتبط بالتاريخ وعصره ولم يرتبط بدولة سياسية، وهو ما حدث أيضًا للثقافة في أوروبا، فجاءت التسميات: العصور الوسطى، عصر النهضة، عصر الأنوار.

إن الثقافة ذات مفهوم كلي ومركب مرتبط بالمجتمع، وتراثه ومكتسباته التي تبرز من خلال العلاقات الاجتماعية، وتلك الأعراف التي تمثله، والتنشئة التربوية والنفسية، وعبر التعليم، لهذا فهي - أي الثقافة - تُكتسب بتلك الوسائط التي يستحضرها المجتمع وأفراده ومؤسساته المختلفة، بمعنى آخر الثقافة، هي: "معرفة العالم الضمنية التي تمكن البشر من إيجاد طرائق مناسبة للفعل في سياقات محددة"([1]). وهكذا تكون الثقافة حاضرة وفق مفهوم من يطرحها، ويكشف عن دلالاتها، ضمن التخصص أو الاتجاه أو المذهب أو العقيدة أو ما شابه ذلك، ما يعني "أن التنظيم الاجتماعي تحدده الثقافة أكثر ما يحدده المحيط الفيزيائي"([2])، على اعتبار أن الفكر الإنساني هو مادة ينبغي كشفها وإبرازها، وتحريكها قبل أن نقدم على مزاولتها واستخدامها وتوظيفها، إذ لا ينبغي النظر إلى الثقافة التي تأتي لنا من خارج حدودنا الجغرافية، أو البعيدة عن تراثنا الحضاري والثقافي كأنها استعمار وسيطرة، أو كما كان ولايزال يطلق عليها بالغزو الثقافي.

ولكن "يا ترى ما هذا الغزو الثقافي الذي يواجه ثقافتنا؟ وهل يمكن أن تكون الثقافة غزواً؟ الثقافة دائماً نعرفها فكراً وحضارة ومدنية، فكيف تكون غزواً؟ والغزو ضد التمدن والتحضر، بل هو الهمجية والتأخر، وتدمير للحياة، الثقافة حياة بذاتها تعمر الأرواح وتشيد البناء وترتقي بالنفوس وتهذب الطبائع"([3]).

أما في مدى قبول أو رفض هذه الثقافة أو تلك، فهو راجع إلى طبيعة تلك الذهنية التي كونتها البنية الثقافة والفكرية لدى الإنسان، إذ لا يمكن لنا أن نقلل من ثقافة أمة أو شعب أو مجتمع، لنعلي من أخرى ونهبط غيرها، طالما كانت الثقافة في خدمة المجتمع وتطوره ورقيه، حيث "لا يمكن لأي أحد أن يحكم على ثقافة ما بأنها على خطأ أو أنها أفضل أو أسوأ من غيرها في المطلق، أو بالنسبة إلى قيم وأخلاقيات عامة لا يمكن قياسها علمياً"([4])، لكن واقع الحال في عالمنا العربي والعالم الإسلامي يدلل على بروز ظاهرة التطرف، ورفض الآخر، بوصف هذه الظاهرة حالة ثقافية تؤدي إلى إبعاد المجتمع عن تحقيق أهدافه وطموحات شعبه.

إن أي مجتمع يتطلع إلى المعرفة والثقافة، فإنه يبنى على قاعدة ثقافية وتطلعات معرفية، حيث يسعى إلى جديد المنتج في شتى المعارف، لذلك فمجتمعنا العربي هو بأمس الحاجة إلى دراسة واقعه في سياق العلوم الإنسانية والعلمية والتقنية، ولكن عبر الوسائل التي كانت وما ينبغي أن تكون، ومدى أهليتها إلى الواقع المعيش وفق ضرورات الحياة، ثم الوقوف عند الأهداف والغايات التي بالطبع تختلف من جيل إلى جيل، ومن مكان لآخر، ومن مجتمع لمجتمع بناء على تلك الأسئلة التي تقترب من الهدف وتسعى لتحقيقه بالوصول إلى الغاية، وهنا تتمظهر المفاهيم والتصورات تجاه هذا الواقع، والمفارقة في ترجمتها على ما كانت عليه في الماضي، وما يتطلبه هذا الواقع المعيش([5]).

وعلينا أن نعي أننا شعوب عربية، أو لنقل شعب عربي بمناطق مختلفة متلاصقة متقاربة ومتباعدة، شعب لديه من الإمكانات العقلية والذهنية التي تساعده في البحث والاستدلال، لكنه يحتاج إلى قرار واع من متخذي القرار في المجتمع العربي لتتحول هذه الإمكانات إلى رسم سياسات، وتنفيذ وبناء يتحدى بها كل القوى الظلامية التي تحارب الثقافة والعلم والتطلع ومواكبة العالم المتقدم.

وهذا يؤكد أنه لا يمكن القول إن الثقافة ذات صفات وراثية؛ فهي تشكل ظاهرة تاريخية في المجتمع، وهذه الظاهرة قد تصل إلى عمر معين وتنتهي، لتأتي ظاهرة ثقافية أخرى، أو تولد من الأولى في سياق الثقافات المسيطرة والمهيمنة، والثقافات المهمشة والمسيطر عليها.

وهكذا ينبغي الوقوف عند كل الثقافات والعمل على قراءتها قراءة تحليلية نقدية من أجل الوصول إلى ما يتطلبه الواقع المعيش، فلا يمكننا جعل الثقافة التي كانت مسيطرة في عهد ما صالحة لتكون في عهد وعصر آخر، "فليس التحديات التي تواجهها الثقافة العربية اليوم عددًا متواليًا من المشكلات كما قد يتوقع كثيرون، وإنما التحديات قوى نسقية مهيمنة ينبغي اكتشافها من أجل معرفة حدود ما تشكله في أنساق الثقافة العربية من تشويه وتزييف وإعاقة أو من بعث واندفاع خلاق"([6]).

إن التاريخ لن يتوقف، ولن تكل حركته، فهو يسير في كل الاتجاهات والطرق، وعلى كل المساقات والسياقات، وعبر كل العتبات والحركات حتى لو حاولت أي جهة كانت إيقاف هذه الحركة التنويرية، فلن تستطيع.

أما ما يحدث اليوم في مجتمعنا العربي، وحدث بالأمس البعيد والقريب، وسيحدث غدًا، فهو الذي يشكل الوعي وطبيعته من جهة، ويشكل التاريخ من جهة ثانية، عبر العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع والوعي الذي يبني فكرنا ويحدد مساراتنا الثقافية والاجتماعية والحياتية عامة، في ضوء الصراعات المتعددة والمتكررة بين الطبقات الاجتماعية، إن كان منظوراً ماركسياً، أو بين فئات المجتمع التكنوقراطي إن كان منظوراً اقتصادياً، أو بين تلك الظاهرة التقنية الحديثة وثورة المعلومات التي تفرض على المجتمع التغيير في التوجه، وفي الممارسة وفي النظرة إلى الواقع المعيش.

إن الجماعات ذات الثقافة الجماهيرية، تملك القدرة على خوض غمار المواجهة وتحدى المجتمع المتفق والمختلف، الرافض والراضي لممارسات شريحة هذه الثقافة، ما يؤدي إلى مزيد من الاتساع والانتشار المصاحب لأهداف ضائعة وطموحات خاوية، وآمال غير واضحة، ومستقبل غير معروف، إذ تكمن المساعدة في هذا الانتشار والحضور، وتوسع دائرتها في دائرة التواصل الاجتماعي التي أوجدت أنماطاً متعددة لهذه الثقافة، كما هو الحال في شبكة التواصل الاجتماعي وتطور الميديا، التي فرزت ثقافة جماهيرية، لها ثقافتها ولغتها وحواراتها وتطلعاتها.

وأعطى انتشار هذه الثقافة الجماهيرية مساحة كبيرة للمؤمنين بها، لكي يبثوا الكثير من معتقداتهم وأفكارهم التي تأخذ المرء والمجتمع من عين الفكر والسؤال والعلم إلى القيد والتمحور، من دون رفض ما يأتي من هذه الثقافة، وكأنه أمر مسلم به، إذ هناك من يؤمن بالمعتقدات التي تصل بالمرء إلى الغيبيات والماروائيات في حل المشكلات العالقة بحياة الإنسان، ويعتبرها ثقافة، وهي التي أتى بها تاريخ الأولين من دون التدقيق والمراجعة والفحص والدرس، وهو ما لا يؤمن به الفرد صاحب الثقافة النخبوية، المؤمن بالعلم والتجربة والدليل العلمي الذي يرى في كثير من هذه الثقافة خرافات وخزعبلات.

وإذ نحن نؤمن بمبدأ الاختلاف والتبيان في الآراء وتسيير الأمور، فهذا أمر طبيعي في أي مجتمع وفقًا لدور أفراد المجتمع، ولدرجة الوعي والمستويات الثقافية، والأنماط السلوكية، وزوايا الرؤية لمعالجة الأمور الحياتية المختلفة، ولكن وللأسف نبقى نحن في عالمنا العربي نعاني الكثير من الويلات، ونحمل على ظهورنا العديد من القضايا التي نكونها ونراكمها بأنفسنا بناء على وعينا تجاه أنفسنا والآخرين، إذ لا نقبل إلا بما نؤمن به نحن من دون غيرنا، ولن نمارس قيم التسامح والاحترام والتقدير لأفراد اختلفوا معنا في الدين أو المذهب أو المعتقد على الرغم أن المواثيق الدولية.

والحكومات والقيادات السياسية في عالمنا العربي تنادي بهذه المبادئ، إلا أن المعضلة تكمن في فهم أفراد المجتمع لأدوارهم تجاه التواصل والتلاقي مع الآخرين، هو ما طرأ على مجتمعنا العربي من حالات العصبية والتطرف، وتصعيد الاختلاف العقائدي والثقافي والفكري.

إن الثقافة الجماعية، غالباً ذات تأثير كبير على ثقافة الفرد، ولكن حينما تتكون هذه الثقافة الفردية، وتبسط سطوتها على الثقافـة الجماعيـة تتغيـر الأمـور كثيراً، ليس على الثقافة فحسب، وإنما تسحب هذه السطوة على الحضـارة أيضاً، وهو ما شاهده الملايين من البشر الذين ذرفت عيونهـم دماً وهـم يرون الآثـار والحضارة التي شيدهـا الإنسان قبـل أكثـر من ثمانية آلاف سنة في شمال العراق تتهشم، وتصبح أطلالاً ودمناً، تلك الحضارة التي كانت جزءًا من الذاكرة الجماعية والثقافة الجمعية والتقدم العلمي والاجتماعي.

كما أن "فحص مفهوم الثقافة العلمي يفترض دراسة تطوره التاريخي، وهو تطور يرتبط مباشرة بالتكوين الاجتماعي للفكرة الحديثة عن الثقافة"([7]) التي هي من صنع الحياة والمجتمع وعوالم الأفراد، وهذا يشير إلى أن أي مجتمع في صورته الثقافية العامة لا يشكله المثقفون والمفكرون فحسب، بل تسهم في هذا التشكل الثقافي كل قوى المجتمع الفاعلة والمختلفة في مجالاتها وعطائها وتطلعاتها، ولذلك على من يدعي الوعي والثقافة، ويرى أنه صاحب مشروع ثقافي اجتماعي، يسهم في خدمة المجتمع وتطوره، عليه أن يراجع ما يؤمن به من فكر، وما لديه من رؤى تجاه كل قضايا المجتمع أو بعضها، على ألا يعتقد أن ما يؤمن به يمكن أن يعالج ظواهر المجتمع، وقضايا الإنسان وسلوكياته.

من هنا فنحن بحاجة مستمرة إلى المراجعة وممارسة النقد الذاتي، ومعرفة دورنا في المحيط الذي نحن فيه، فهذه المراجعة هي التي تساعدنا على معرفة قضايانا بصورة واضحة الأبعاد والزوايا.

فإن أردنا أنساقاً ثقافية متجددة لبناء مجتمع متطور، لابد من تحليل الظواهر التاريخية والاجتماعية والثقافية، والممارسات الفردية والجماعية في المجتمع، وأهميتها في الرقي والتطور أو في الانحدار والتراجع، وعليه تبرز الكثير من الأسئلة تجاه هذه الثقافة، فهل تكمن الثقافة في التربية؟ هل الثقافة هي التهذيب والتشذيب، هل الثقافة هي ما تضمه الحضارة من تاريخ؟ هل الثقافة المجتمع وما يحتويه؟ هل الثقافة كل هـذا؟ بل لو رجعنـا إلى معجم الصحـاح في اللغة والعلـوم، لرأينا أنه أشـار إلى الثقافة على أنها "كـل ما فيه استنارة للذهن، وتهذيب للـذوق، وتنميـة لملكـة النقد والحكم لدى الفرد أو في المجتمع "([8])، كما يشيـر المنجـد في اللغـة والإعـلام إلى مفهـوم مجمـل وعـام مرتكزاً على أن الثقافـة، هـي: "التمكن من العلوم والفنون والآداب"([9]).

وهنا لا ينبغي الوقوف على الثقافة بوصفها أفكاراً فحسب، بل هي تلك الأفكار وأساليب الحياة المعيشة، والسلوك الاجتماعي، وثقافة الفرد والجماعة والمجتمع، وهي الوعي بما يدور حول الإنسان من قضايا وحيثيات، فكل الديانات السماوية والوضعية هي عالم من الثقافة الإنسانية، تقوم على عنصر مشترك، هو تأسيس الأخلاق على مجموعة من التشريعات والمعتقدات، غيبية ودنيوية، وأي متصفح للكتب السماوية، فإنه سيجد ثقافة التواصل والتسامح والتقارب والانفتاح، كما يجدها في الكتب الوضعية.

[1] - تيري إيجلتون، فكرة الثقافة، ص80.

[2] - دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص35.

[3] - أحمد الفلاحي، حول الثقافة، ص39.

[4] - كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ص15.

[5]- عبدالكريم سروش، التراث والعلمانية، ص24-62.

[6]- إبراهيم غلوم، الثقافة وإنتاج الديمقراطية، ص17.

[7] - دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص11.

[8] - معجم الصحاح، مادة ث ق ف.

[9] - المنجد، مادة ث ق ف.