- التخطيط للعنف والإرهاب موجود ببطشه في كل بقعة جغرافية

- الدين بات يُستغل في السياسة كأداة لتحقيق غايات فردية أو فئوية

- النظر إلى الأفراد بناء على انتماءاتهم الدينية انتشر في التحليلات الثقافية



- الاضطراب المجتمعي والسياسي والاقتصادي أدخل العالم العربي في نفق خطير

..

د. فهد حسين

إن التطرف أو العنف أو الإهاب مفردات لا تخرج عن كون دواخلها مرض نفسي واجتماعي وثقافي وعقائدي، لما يتكشف منه دلالات الانغلاق على الذات المحصورة في ماضويتها، أو المتصف في تركيبتها بالعنف والدمار والإقصاء، والراغبة دومًا في محاربة الآخر المختلف والانفتاح عليه، لذلك يرفض المؤمنون بهذه المفردات الترحيب بتنوع المجتمع فكريًا أو دينيًا أو تتعدد فيه الطوائف والقوميات والأجناس والمعتقدات، علمًا أن الأديان السماوية جاءت لتغير أوضاع المجتمعات تدريجيًا، ويتسع التغيير كلما اتسعت رقعة هذا الدين أو ذاك، والمثال الأكثر وضوحًا اتساع رقعة العالم الإسلامي الذي بدأ في الدعوة منطلقًا من مكة إلى المدينة ثم الكوفة فدمشق ثم بغداد حتى باتت الكثير من الأمصار والمدن مقار لدعوة الناس سياسيًا ودينيًا عبر الدولة السياسية والدويلات التي خرجت من الدولة الأم كما في الدولة العباسية.

وهذا يعني أن دلالة هذه المفردات لم تعد حالات أو مشكلات، وإنما هي ظاهرة استفحلت في نخر النسيج الاجتماعي والثقافي في أي مكان تتواجد فيه، الأمر الذي جعل الكثير من الشرائح المثقفة غير راضية للحالة التي وصل إليها العرب، ولا يمكن تفسير حالة العجز أو عدم الرضا ومحاربة ما آل إليه المجتمع العربي إلا بحراك ثقافي يتمثله المثقفون والكتاب والأكاديميون والتكنوقراط من جهة، وبحراك اجتماعي شعبوي يؤمن بأهمية التغيير ولكن ليس بالعنف والإقصاء، إذ لم تخرج أوروبا من بوتقة عصور الظلام الذي خيم عليها إلى عصر الأنوار إلا بعد ما حدثت ردة فعل قاسية على التطرف الديني آنذاك، وفصل الدين عن الدولة.

وحين الحديث عن الإرهاب والعنف في العالم العربي بعيدًا عن الدين أو الطائفة أو المذهب، " فلا يصح اتخاذ الحاضر مقياسًا للماضي، ومرآة صافية، فالحاضر مهما قيل في مشابهته وفي مماثلته للماضي، لن يكون صورة طبق الأصل له، ومن هنا يخطئ حكم من يحكم على الإسلام قياسًا على حالة المسلمين ومظاهرهم في القرن العشرين "([1])، فما بالك ونحن في على مشارف نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، مما يعني أن ليس بعض معتنقي الإسلام من يقوم بممارسة التطرف، ولكن هناك منظمات دولية بعيدة كل البعد في حركتها عن أي نهج ديني تذكرها الكثير من المواقع الإلكترونية، إذ الإرهاب لم يقف عند هذه دول العربية، وإنما الأجنبية غربًا وشرقًا، ألم تظهر الحركات الفوضوية والعدمية، ومنظمة الألوية الحمراء في إيطاليا، وجماعة بادر ماينهوف في ألمانيا، ومنظمة العمل المباشر في فرنسا، وهناك منظمات أخرى تشكلت في القارات الشرقية أيضًا، حيث إن التخطيط للعنف والإرهاب يكون موجودًا ببطشه وعنفوانه المدمر في كل بقعة جغرافية، من أجل تحقيق النهج والفكر الطامح بالسيطرة على كل مقدرات الناس والحياة.

وعبر تاريخ العرب كانت المعتقدات الدينية السماوية والوضعية أدوات يستغلها الراغبون في السيطرة على مقدرات الشعوب فيوظفونها لتحقيق طموحات وأحلامًا سياسية، واشتد ذلك حين تحولت الفترات الزمنية السياسية من خلال البعد الثقافي أو الحضاري أو المنجز الذي أنجزه الإنسان آنذاك من خلال السياسة ذاتها، فجاءت لنا عصور تحت مسميات من قام بهذا الحراك أو ذاك، مثل: الدولة الأموية، الدولة العباسية، الدولة الحمدانية، الدولة الفاطمية، وهكذا بات الدين يُستغل في السياسة كأداة لتحقيق غايات فردية أو فئوية، لإيمان هؤلاء أن سهولة في إقناع الناس بأهمية الدين في صناعة السياسة، والعمل عبر بعض الكتاب والمؤرخين والمؤلفين في " تاريخ الإسلام الذي حاول كل مؤلف صبغ الإسلام بالصبغة التي يريدها ويحملها ويعتقد بها مستشهدًا بذلك بخبر أو بأخبار، مفسرًا إياها، وشارحًا لها على وفق رغبته وهواه "([2])، الأمر الذي يودي إلى تحديد هوية هذه الفئة أو تلك وفق ما يكتب من جهة وما يتم الاشتراك فيه من معتقدات قد تصل إلى حالة من التطرف والوحشية واللاعقلانية.

وبالرجوع إلى التاريخ العربي نجد أن بلاد الأندلس آنذاك إبان سقوط الدولة الأموية ثم الحروب الطاحنة التي حدثت بعد ذلك، برز دور القشتاليين وحربهم لكل من يخالفهم في الدين، إذ كانوا قد أمروا المختلفين عنهم دينًا بالاختيار، أما الخروج عن دينهم، وهؤلاء هم (المسلمون واليهود)، والدخول في الدين الذي يؤمنون به وهو (المسيحية)، أو الحرب والتشريد خارج تلك المناطق التي يسيطرون عليها، بمعنى أن بروز جماعات تكفيرية وأحادية النهج والفكر، وتمارس دور الإقصاء للآخر المختلف عنها دينيًا أو مذهبيًا أو طائفيًا أو قوميًا، أو ربما الاختلاف يصل إلى العرق واللون والجنسانية، كما أن " العنف الذي توّلد عن تدفق جماعات دينية وثقافية بواسطة التباين كان على نطاق يختلف تمامًا عن نطاق ذلك العنف الذي نجحت الطوائف المسيحية المختلفة في إنتاجه في قرون من الحروب والملاحقات الدينية "([3]).

إن هذا الظهور يمثل امتدادًا لثقافة كانت تبرز بين الحين والآخر لدى بعض المتشددين في العالم أجمع، والإسلامي بشكل خاص بهدف البقاء على وجود فئة دون أخرى، وتهميش طائفة، أو القضاء على بعض المكونات المجتمعية كما قد حصل إلى الأقليات في شمال العراق، و" أصبح النظر إلى الأفراد بناء على انتماءاتهم الدينية بلا شك أكثر انتشارًا في التحليلات الثقافية في السنوات الأخيرة، وأدى التزايد على استخدام الهويات الدينية باعتبارها المبدأ الرئيس لتصنيف أهل هذا العالم إلى الكثير من الفظاظـة في التحليـل الاجتماعي "([4]).

ويعود كل هذا إلى أن هناك في العالم كله أفرادًا استطاعوا أن يحققوا لهم مكانة في عقول الضعفاء وقلوبهم، فحولوهم إلى دمى وضعوهم في ساحات العنف، وممارسة الإرهاب بشتى الوسائل المتاحة لهم، والممكنة التي تحاول هذه الأفراد توفيرها الذين لم يكتفوا بغرس علامات الشر والعنف في نفوس الشباب المغرر بهم والمستحوذ على عقولهم، بل راحوا ينظّرون ويرسمون ويبنون الخطط التي تمكنهم من السيطرة والاستحواذ على العقول كاملة لتكون طيعة سهلة الانقياد، لذلك أخذوا الدين هو المحرك الرئيس بالنسبة لهم، لاعتقادهم أن هؤلاء الشباب يفتقدون إلى الآمال ولديهم العجز، ويعانون الإحباط، وأن الدين هو اليقين الذي يفتح لهم آفاق المستقبل، وقد استطاع هؤلاء الأفراد أو جماعاتهم أن يغرسوا المفاهيم والاستنتاجات التي يصيغونها، وقد نجحوا في ذلك، وهذا ما بينه جونيه لابون، وهو أحد كبار مفكري فرنسا حيث يقول: أذا أردنا أن نقسم منطقة شمال أفريقيا فلابد أن ننظر إلى أن السكان هناك يتألفون من البربر الذين لهم حساسية مفرطة تجاه القومية، والعرب الذين لهم حساسية مفرطة تجاه الدين، ولكي نقسم علينا أن نطرح القومية بين أوساط العرب، والدين بين أوساط البربر، وبهذا يبدأ الخلاف والصراع وقد يصل إلى الحرب([5]).

ومع هذا الغرس كانت هذه الأفراد حتى تمرر برامجها وتنفذ خططها أن تقنع ضعاف النفوس بما يدور في الواقع المعيش تفسيرًا لهذا الواقع من خلال هذه البرامج والفكر الإقصائي فيؤكدون على حالات الفساد للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي أفقدت الناس حقوقها مما يجعلهم في عنفوان وانفعال لفعل أي شيء لصالح ما ينادون به، وهذا العنف ولد عنفًا آخر من الدول والتكتلات السياسية مما أدى إلى حالة من الغليان في المجتمعات العالمية.

ولو بحثنا قليلاً في صفحات الشبكة العنكبوتية حول الكتاب والصحفيين والسياسيين الذين لهم دورهم في كشف زيف التيارات التي تسعى إلى تدمير البلاد، لعرفنا ذلك بشكل مأهول، فكم من كاتب أو صحفي، ومن مدني سواء أكان منتميًا سياسيًا أم غير منتم، أكان مع السلطة أم معارضًا لكتا السياستين المعارضة المتطرفة والسلطة السياسية في ليبيا وسوريا والعراق ومصر، وغيرها من الدول العربية والأجنبية ذهب ضحية هذا العنف والتطرف؟! في الوقت الذي كل المنظمات الدولية المعنية بالسلام وحقوق الإنسان تدين هذه الممارسات تحت أي مسمى، وفي أي مكان أو زمان، وتحت أي ظرف كان.

ومع هذا الاضطراب المجتمعي والسياسي والاقتصادي كانت النتيجة دخول العالم العربي في نفق خطير، ليس لأن هؤلاء وقفوا مع أو ضد، أو لأن الوعي بممارسة الديمقراطية لم تكن قد بنيت على قاعدة صلبة، على الرغم من وجود أنظمة كانت تنادي بها، لذلك لم يحدث تغيير في هذه المجتمعات لما هو متوقع، بل ما نراه ونشاهده ونقرأ عنه، كان الأسوأ، حيث التحوّل الذي طرأ، وليس التطور في المجتمع، التحوّل الذي يعني التغيير من حالة إلى حالة، من دون أن تكون الأفضل، وربما يعود كل هذا إلى أن ما حدث بعد فترة وجيزة من هذه الأحداث هو إلغاء الآخر، إذ لم تكن البنية الفكرية المتوارية في اللاوعي متهيئة بشكل صحيح لقبول الآخر.

برزت على سطح الأحداث العربية جماعات متطرفة عربية وغير عربية، كانت ولاتزال تتعامل بشكل تعتقد معه أنها تمثل توجهًا دينيًا محضًا، فعمدت إلى نظم وقوانين خاصة بها تجاه قضايا المجتمع، وتجاه النظم الحاكمة، وتجاه الممتلكات العامة والخاصة، ومحاربة الآخرين المختلفين عنها، وكذلك تجاه الذين لا يؤمنون بفكرهم، مما حدا ببعض الكتّاب والمبدعين إلى الكتابة سردًا وشعرًا حول ما يجري في العالم العربي، بل المشكلة أن هناك من يدعي أنه أعطيت إليه صلاحية تغيير المجتمع وفق هواه، وكأنه حصل على إنابة عن الدين ليمارس دورًا يعتقد في صالح الدين، ولكنه بهذا يسيء إلى الدين وإلى الإنسانية، وإلى الطائفة التي قد ترى نفسها هي الطائفة المؤهلة والقادرة بل والصالحة الخالصة والناجية التي لديها الحق في بناء المجتمع دون غيرها؛ لأن كل الطوائف ضالة فاسدة تعرقل عجلة البناء والنمو، لذلك يجوز محاربتها وقتلها ومحوها من الوجود، بل لم يعد المتطرفون يعون ويعترفون أنه " مازال الانتماء إلى مذهب دني أو الانتماء إلى إحدى الديانات الكونية الكبرى أمرًا له علاقته بالولادة، إنه انتماء سلالي لجماعة معينة. إن ديانة الفرد هي ديانة المجموعة التي يشكل الفرد واحدًا منها بالولادة "([6]).

وفي الوقت الذي ننتقد تلك المشاحنات والتباينات بين المثقفين أو بين بعض الكتاب تجاه التصنيف ليس السياسي فحسب، بل الديني والطائفي والعرقي والاثني، فإن هذه الحالة المرضية موجودة أيضًا في دول أخرى غير العربية – وهذا لا يعني الموافقة على وجودها في عالمنا العربي – وإن كانت بنسب متفاوتـة، فأوروبا مثلاً عندهم بعض الأفكـار تعزز بعض الأسئلة والتفكير فيها بالنسبة للقارئ أو المتابع حينما يؤكدون في هذه الحوارات أو في الأدبيات على بعض المفاهيم والمصطلحات التي يكرسونها في حواراتهم، مثل: " الغرب ـ الشرق، المسيحية ـ الإسلام، المسيحية اللاتينية ـ العالم البيزنطي، العالم الكاثوليكي ـ العالم البروتستانتي، وغيرها من هذه التقسيمات والتباينات "([7]).

لم يقف العنف والإرهاب الذي يدور في فلك جغرافية العالم العربي، وإنما صدرته بعض الجماعات إلى بعض الدول الآمنة شعوبها، والمستقرة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، صُدر الإرهاب فحدثت التفجيرات والدمار في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا وغيرها من الدول الأوروبية، حتى بات العرب والمسلمين يوسمون في الغرب بالإرهابيين، وأن الدين الإسلامي دين يشجع على العنف والقتل، وتحول الدين عندهم الذي ينادي بالتسامح والتعايش إلى دين إرهاب.

بعد أكثر من سبع سنوات خلت من هذه الأحداث نحتاج إلى وقفة تأمل، وإلى كتابات في المجالات المختلفة في بعدين أساسيين، البعد الأول هو العمل على أضفاء البسمة قدر الإمكان محل الدمعة والحزن، وهذا دور الكتابات الإبداعية والأعمال الفنية الدرامية والمسرحية والسينمائية، كما حدث في العالم العربي بعد هزيمة العرب في حرب 1967، وكيف عملت المؤسسات الثقافية والفنية على خروج الإنسان العربي المهزوم من بوتقة الحزن والإحباط، وفقدان الأمل والحسرة على ضياع الحلم العربي، إلى بعض من الفرح والسعادة.

ووفق ما هو واقع ومعيش في العالم العربي الذي لم يعد مناخه صالحًا للعيش بسلام وطمأنينة في ظل هذه الحالات الإرهابية، والخوف من المجهول والمصير، بل نتيجة الإحباطات الكثيرة التي أصيب بها الشعب العربي المنادي بالحرية والمساواة والعدالة بعد مشاهداته وانحراف مطالبه، ألا يحق لنا جميعًا الوقوف والمراجعة الحقيقية، ومساءلة الذات في سياقات الظروف الموضوعية والذاتية المحية بالمجتمع العربي، والأخذ بالاعتبار للمواثيق الدولية والقوانين ذات العلاقة بحقوق الإنسان والمطالب المشروعة؟

وفي الوقت ذاته كانت تسلط الضوء على نقد المرحلة بحسب رؤية صاحب العمل، وبرز في هذا الجانب العديد من الأفلام السينمائية والمسرحيات الهادفة، كما نحتاج إلى الدراسات البحثية لقراءة الظاهرة والحالات المتشعبة بشكل تحليلي، على أن تكون هذه الدراسات بعيدة كل البعد عن أي انتماء ديني أو مذهبي أو أيديولوجي أو ميل إلى طرف من طرفي المعادلة (المعارض/السلطة)، حيث باتت العروبة والقومية والنسيج العربي محل تساؤل من قبل الشارع العربي، وموضع سؤال عن مدى الجدوى من الحلم الذي كان طريقنا في الحياة.

إن ما يحدث في عالمنا العربي، ووصل إلى الدول الأجنبية الغربية تحديدًا من عنف وإرهاب يشكل تراجعًا حقيقيًا في مسيرة التنمية المجتمعية، ويمثل خطرًا على ماضي هذه الدول وحضارتها الذي لعب به ونسف الكثير منه وبالأخص ذاك التراث المادي، وعلى حاضرها المهدد بالانهيار، ومستقبلها الذي لا ينم عن بارقة أمل؛ لأن الأزمات والنكبات والإحباطات متجذرة في عالمنا العربي حكومات ومؤسسات وأفرادًا، حيث نعاني جميعًا من أزمة في التفكير وتحليل الماضي، وفي عيش الحاضر، واستشراف المستقبل، كما لدينا أزمة في طبيعة وعي المجتمع بقضاياه المصيرية، والاضطراب في التفكير بين ماضوية الحالة وحاضرها ومستقبلها مما أفرز أزمة في اتخاذ القرار الذي بات حائرًا بين هذا الجذب إلى غياهب الماضي نفسه وبين التطلع إلى مواكبة التحولات والتحديث في المجتمعات المتقدمة.

وهنا يمكن الرجوع بالذاكرة القريبة لمعرفة حالة الثقافة الإقصائية لدى الجماعات المتطرفة التي حاولت اغتيال الفتاة الأفغانية (ملالا) في 2012/10/9 وهي في حافلة المدرسة، حيث أطلق عليها أحد جنود جماعة طالبان الرصاص متعمدًا لقتلها، ولكن لطف الله وإصرارها على تنفس الحياة الصحية، ومواجهة ثقافة العنف التي يمثلها هذا الجندي وجماعته وفرضها على المرأة لأن تكون حبيسة البيت وبين الجدران الأربعة متوهمين أن هذا حفظ لها وستر يحميها من ملوثات العالم الخارجي، ولكن هذه الفتاة حققت ما تطمح إليه النساء اللائي يقعن فريسة أو ضحية هذه الأفكار المتطرفة، بل قادها إصرارها على حديتها في التعليم والحياة حصولها على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع المناضل الهندي (كايلاشي ساتيارثي).

لقد امتدت يد العنف والإرهاب إلى الثقافة المادية، بعد ما سعى إلى قتل الثقافية داخل الفرد، فوصلت إلى ما كانت بعض الدول العربية تتميز به حضاريًا، وليس تباهيًا وتفاخرًا، بل لأن ما لديها من تراث حضاري يشكل عمقًا حضاريًا عالميًا، لذلك كانت جل الآثار والحضارة مسجلة ضمن التراث المادي العالمي في منظمة اليونسكو، وبهذا التخريب والعنف والإرهاب يمارس المنفذون له استئصال ذاكرة تاريخية وحضارية من عقول الفئات الصغيرة التي ما أن كبرت حتى تنسى جزءًا من تاريخها الثقافي.

وهنا نتساءل: ماذا يمكن أن نطلق على هذه الأفعال الهدامة! هل ما تقوم به هذه الجماعات من عنف وهدم للأضرحة ونبش للقبور وحرض ما يمثل الحضارة الإنسانية أهو انتقام إلى تاريخ ما؟ أو هو تشفٍ لواقع كان مزدهرًا بهذه الحضارة، ومزهوًا بها؟ أو لعجز في فهم كنه هذه الحضارة؟ أو لأن هذه الثقافة لا تستقيم وحالة الانغلاق والإقصاء التي تنادي بها هذه الجماعات؟ وهذا ليس في عالمنا العربي فحسب، بل في العديد من الدول ذات الحس الحضاري والإسهام الثقافي، وهنا تشير إيزابيلا كاميرا المستعربة الإيطالية إلى أن " المافيا في إيطاليا قاموا بتدمير عدد من أمكنة التراث الحضاري والإنساني، وهم مزهوون بذلك، بل يقول أحد رجال المافيا: إذا قتل أحد القضاة سوف يتم استبداله، وإذا قتل شرطي يحدث الشيء نفسه، ولكن إذا تم تدمير برج بيزا على سبيل المثال، فلا يمكنهم استبداله، ومن ثم فإن الأضرار التي سوف تلحق بالدولة ستكون فادحة "([8]).

ولا شك أن مثل هذا الاحباط لا شك يفسد تلك الحقب التاريخية التي عملت فيها الشرائح الوطنية المثقفة، والكتاب والفنانون على بناء جسور من التلاحم والتقارب والتعايش، بل الانتصار. ولكي نعزز الانتماء الوطني والعربي، ونبدد حالة الحزن المخيمة علينا، لا بد أن نعمل معًا لمحاربة الفكرة التي بدأت تتغلغل في عقول الكثيرين من أن القومية العربية كذبة، ومشروع انهار ولا وجود له، لذلك واجب على الجميع الرجوع إلى الثقافة العربية ودراستها في ضوء التجارب والنتائج التي برزت إذا أردنا العيش في مرحلة جديدة لها متطلباتها وتحدياتها، بل ليعرف المثقف العربي بوصفه أحد أفراد المجتمع، أن سعادته تكمن في تلك القيم والنوازع الأخلاقية التي كان يستمدها من الفكر الذي ينتمي إليه، بحيث هذه القيم تجعله فاعلاً وصادقًا وقادرًا على العمل الفردي والجمعي لبناء المجتمع، فضلاً عن عيشه في سلام من دون قلق أو اضطراب أو مرض اجتماعي.

وفي خضم هذا العنف والإقصاء والإرهاب الذي يحاول المثقف قراءته وتحليل نتائجه، فإنه لم يعود بذاكرته ومحاولة تقليب صفحات التاريخ وثقافة الماضي ليقف على تاريخ العنف لمعرفة الأسباب التي أسهمت في إرساء قواعده ضمن أجندة التاريخ البشري، ويكتفي دائمًا بقراءة النتائج وما أفرزته موجات العنف وحالات التطرف والدمار، وإن معالجة هذه الظواهر غير الطبيعية في المجتمع تتطلب من المثقفين وأصحاب القرار السياسي والثقافي والاجتماعي هي مناداتهم بإيجاد أرضية مشتركة بين أفراد المجتمع لنشر ثقافة التنوير والتطلع والتربية القيمية الداعية للمواطنة من جهة، وغرس مبادئ ثقافة الاختلاف، وأهمية احترام الآخر في ظل التعددية الدينية والمذهبية والقومية واللونية، فضلاً عن التعدد الحزبي سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا.

[1] - جواد على، تاريخ الهرب في الإسلام، ص44-45.

[2] - جواد على، تاريخ الهرب في الإسلام، ص46.

[3] - بريان باري، الثقافة والمساواة – نقد مساواتي للتعددية الثقافية، ص42.

[4] - أمارتين صن، الهوية والعنف – وهم المصير الحتمي، ص70.

[5] - انظر: علي شريعتي، مسئولية المثقف، ص78.

[6] - جيرار كيكلر، العولمة الثقافية – الحضارات على المحك، ص433.

[7] - جامعة كل المعارف، ما الثقافة؟، ص318.

[8]- إيزابيلا كاميرا، مجلة الدوحة (ملف الإرهاب)، عدد90، أبريل2015، ص25.