تلفزيون الشرق


في كتابه "على بلد المحبوب .. رحلة زمزم الأخيرة"، يتتبع الكاتب المصري أحمد خير الدين قصة سفينة مصرية قصفتها القوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية عام 1941، ليقدم للقارئ سرداً شيقاً للظروف التاريخية التي أبحرت فيها "زمزم" من الإسكندرية إلى نيويورك، قبل أن تقصف في طريق عودتها في مياه المحيط الأطلسي.

"زمزم" هي واحدة من أوائل قطع الأسطول التجاري البحري، الذي سعى الزعيم الاقتصادى الراحل طلعت حرب إلى تكوينه، لتخليص الاقتصاد المصري من سيطرة الاحتلال الإنجليزي آنذاك.

باخرة الحجاج


وبدأت "زمزم" خدمتها بنقل الحجاج من وإلى أرض الحجاز، ثم قطعت عدداً من الرحلات التجارية لتصدير القطن المصري، حتى رحلتها الأخيرة التي خرجت من الإسكندرية إلى نيويورك، حيث تم قصفها في طريق عودتها بنيران القوات النازية في المحيط الأطلسي.

وتم أسر طاقم السفينة المصري بالكامل لمدة جاوزت الأربع سنوات في معسكر مارلاج النازي، فيما تم الإفراج عن الركاب الأميركيين، أملاً في ألا تدفع الحادثة الولايات المتحدة إلى دخول الحرب إلى جوار قوات الحلفاء.

وفي مقابلة مع "الشرق" يقول أحمد خير الدين، إن الكتاب "حاول تتبع ثلاث مسارات متوازية لقصة غرق الباخرة زمزم، أولها شكل الحياة السياسية والاقتصادية في مصر وقت إقلاع زمزم وخلال رحلتها، ثم مسار الحرب العالمية الثانية وتطوراتها، فيما كان المسار الأهم بالنسبة لي هو قصص الناس على الباخرة، والفارق الكبير بين مصير الركاب الأميركيين والبريطانيين، ومصير الطاقم المصري".

أحمد خير الدين إعلامي وكاتب مصري، من مواليد دمياط عام 1987، صدر له كتابان سابقان يندرجان تحت تصنيف الأدب غير الخيالي، وهما "من الشباك" عام 2017، و"بعلم الوصول" عام 2019.

قصة "قد تغير كل شيء"

احترف خير الدين تتبع الوثائق وقصاصات الأخبار، وقدم في كتابه صورة وثائقية لرحلة زمزم، حيث اهتم بسرد التفاصيل الدرامية في حياة الناجين، ممن قصوا حكاياتهم على الصحافة الأميركية والبريطانية آنذاك، فيما غابت قصص الطاقم المصري بشكل كامل.

ويقول الكاتب المصري: أنا مشغول بفكرة تجارب الشخصيات الصغيرة في الأحداث الكبيرة، هذه التفاصيل الإنسانية جزء مهم من نسيج الكتاب.

ويضيف في حديثه لـ"الشرق": في خضم الأحداث الكبرى تكون للقصص الشخصية أهمية كبيرة في تعريفنا بروايات لم ولن تذكرها الوثائق الرسمية، وهذه واحدة من الأمور التي أتمنى أن تتغير في ثقافتنا، أن نشعر أن قصصنا الشخصية مهمة، وأن حكيها مهم، فالمواطن الأميركي يشعر أن شهادته قد تغير كل شيء.

ويتابع: "نحن لا نهتم كثيراً بكتابة ما عشناه، أظن أننا لدينا إحساساً دائماً بالوفرة، فالتاريخ طويل والأحداث الكبرى كثيرة، بالتالي لا نهتم بتوثيق شهاداتنا وحكاياتنا الشخصية، اعتقاداً منا أنها لا تهم أحداً، وهذا يصعب اقتفاء آثر الأحداث الكبرى، أو تلك الأقل أهمية من زوايا مختلفة أكثر قرباً وإنسانية، لكن أظن أن ذلك في طريقه للتغيير، فحركة النشر الواسعة سمحت بنشر الحكايات الشخصية للجميع وتفاصيل إنسانية مختلفة، حتى وإن ظن البعض أن ذلك عيباً، لكن هذه الإصدارات الكثيرة تساعد الباحثين على تمحيص وتجميع زوايا مختلفة للأحداث الكبيرة".

خبر صغير عن عودة "اليوزباشي"

يروي خير الدين أنه عثر على مفتاح حكاية "زمزم" حين قرأ خبراً صغيراً عن عودة اليوزباشي (رتبة عسكرية عثمانية) حسن واصف، في جريدة "روزاليوسف"، نشر بعد انتهاء الحرب وإلغاء الرقابة على الصحف، فتوسعت الجريدة في الكتابة بحرية، وبعد المقدمة نشرت الجريدة خطابه الذي يحكي فيه ما تعرض له في معسكرات النازية.

يقول الكاتب المصري إن الرجل "حكى قصة لم نسمع عنها من قبل في كل ما كتب عن الحرب العالمية الثانية، لم أكن أعلم أن هناك باخرة مصرية اسمها زمزم قصفت، ولم أكن أعلم أيضاً عن طاقمها الذي أمضى 4 سنوات في معسكرات النازية".

ورغم أن "زمزم" كانت تتمتع بصيت ذائع وتعلقت بها الآمال العريضة في دفع عجلة الاقتصاد المصري، فقد غابت تفاصيل غرقها بالكامل عن الصحافة المصرية، ربما بسبب الرقابة الصارمة على الصحف المصرية في ذلك الحين، حتى إن الخبر الأول عن احتمالية غرق السفينة ورد في مساحة صغيرة جداً، بعد شهر ونصف من تاريخ غرقها.

ويضيف: "عدت للبحث في المصادر الأجنبية، وهناك وجدت الكثير من الأخبار والحديث عنها باعتبارها باخرة معجزة كانت تحمل مجموعة من المبشرين الذاهبين إلى إفريقيا، ورغم القصف النازي فقد نجا كل الركاب ولم يصب أحد".

التقطت خير الدين زاويته لتقفي أثر الحكاية، وهو مصير الطاقم المصري على السفينة، في ظل غياب كامل لحكاية غرق زمزم عن الصحف والوثائق المصرية، مقابل الحضور القوي لحكايات الناجين الأجانب.

يقول: "كان من المدهش بالنسبة لي اهتمام الألمان بتوثيق الحدث، حتى وإن كان يعتبر جريمة مثل القبض على طاقم السفينة دون جرم واضح، ورغم حياد مصر حتى لحظة غرق السفينة، في الوقت الذي لم تهتم أي جهة مصرية أو غيرها بتوثيق أسماء الطاقم، هذه القائمة الواردة في الكتاب ليست موجودة إلا في الأرشيف الدبلوماسي الألماني".

لم يجد خير الدين حضوراً لقصص الطاقم المصري إلا في التفاصيل البسيطة التي احتك فيها بعض أفراد الطاقم مع الركاب بشكل مباشر، هذا ساعد في إنقاذ شخص ما، وذاك حمل طفلة عن أمها.

يقول: "للأسف لم تكن هناك وثائق، والموضوع كله يعتمد على الصحافة، التي لم تكن قادرة على نشر كل شئ بسبب الرقابة، ولا تصلح للاعتماد عليها بشكل كامل، لذا جمعت ما تناثر في الصحافة المصرية، التي تباينت فيها الروايات واختلفت كثيراً عن الصحف الأميركية والبريطانية، التي ضخمت القصة لدفع الولايات المتحدة نحو الدخول في الحرب".

خلال رحلة بحثه أسعف الحظ خير الدين بلقاءات مع مجموعة من الركاب الناجين، ذلك لأن بعضهم كانوا أطفالا حين ركبوا زمزم، أما في ما يتعلق بالطاقم المصري فقد اعتمد على الأرشيف العائلي لأسرهم.

يقول: "بالنسبة للمصريين لم تكن القصة مجرد النجاة من الغرق في لحظة تشبه المعجزة، لكنها أيضاً تجربة مؤلمة متبوعة بالسجن القاسي في معسكرات النازية".

ولع بحكاية الواقع

لم يكتف "على بلد المحبوب" بتقديم النتائج التي أسفرت عنها رحلة البحث عن الحكايات الباقية عن "زمزم"، وإنما قدم خير الدين للقارئ أيضاً سرداً للحظة التاريخية، أقرب لرواية الواقع، وجدت فيها الشخصيات موقعاً في الحكاية بأسمائهم، وتفاصيل حيواتهم ودراما تدفع القارئ إلى المتابعة بشغف. "كقارئ لم أكن أحب سرد التاريخ بأسلوب (ما النتائج المترتبة على) أو (بماذا تفسر)، كنت أريد أن أنشر وثائق وتواريخ وأحداث ودراما دون أن أفقد القارئ، بل بطريقة شيقة تجعله يكمل الكتاب، ويستمتع بالدراما التي عاشها أبطال الحكاية".

يحكي خير أن الناشر توقف كثيراً أمام التوصيف الذي سيضعه على غلاف الكتاب "طرحت علي الكثير من الأفكار، كأن يكتب على الغلاف (رواية وثائقية)، هذه التصنيفات غير دقيقة، والحقيقة أنني أشعر أن الجمهور تجاوز فكرة التصنيف، ينعكس ذلك في الرواج الذي تشهده الكثير من قصص الواقع (Non fiction) والجوائز التي بدأت تهتم بهذا النوع الأدبي، كل هذه المؤشرات تؤكد أن هذا النوع في طريقه إلى مكانة جيدة".