في أواخر العهد العثماني في بغداد برز رجل فارسي في المجتمع، لاسيما في مجتمع الجالية الفارسية، لم يعرف تاريخه، ولكنه في الفترة التي برز فيها كان يعمل في تجارة المجوهرات، وأصبح يعد من كبار الوجهاء، ونتيجة لمكانته ووجاهته في المجتمع، منحته الحكومة الفارسية ثقتها ليمثلها «فخرياً» بقضاء حوائج الجالية الفارسية، وفي الوقت ذاته كان والي بغداد يستلم باستمرار شكاوى تخص هذا الوجيه أكثر من الشكاوى التي تصله عن أي مجرم أو متحايل أو مخالف للقانون في بغداد، في تلك الفترة كانت الحكومة العثمانية إذا أرادت معاقبة أي عابث بالأمن من المجرمين والمخالفين والمتشردين الأجانب، تفرض عليه الجندية، تخلصاً من أذاه وانتفاعاً من خدماته، إلا أن والي بغداد كلما همَّ بمعاقبة الوجيه الفارسي بفرض الجندية عليه، تردد لمكانة الرجل ووجاهته وثرائه، حتى تكاثرت جرائمه وبلغت الحد الذي لا يمكن السكوت عنه، فأوعز الوالي إلى مدير التجنيد أن ابحث أمر هذا الوجيه وعاقبه بالتجنيد بطريقة تراعي وضعه الاجتماعي.

وبالفعل استدعى مدير التجنيد ذلك الفارسي وهو محرج منه، بحضور مجموعة من أهالي بغداد، وبدأ باستجوابه بلغة تمزج بين الكلمات العربية والعثمانية والفارسية، وأول سؤال كان: ما هو عملك في بغداد؟ فقال: تاجر مجوهرات، فقال مدير التجنيد: لا، ماذا كنت تعمل بالأصل؟ فقال: كنت أعمل ببيع الأدوات المستعملة في الطرقات. فقال مدير التجنيد: أريد عملك الأصلي. فقال له: كنت «قهوجي»، فقال له مدير التجنيد: من الأخير ما هو عملك ومهنتك الأصلية؟ فقال: مولاي، صنعتي وعملي الأصلي إسكافي. هنا تنفس مدير التجنيد الصعداء، وخاطب الحضور من حوله قائلاً: «شمدي أصلي بولدم» أي، الآن وجدت أصله فجنده على الفور وأراح المجتمع من أذاه.

الإسكافي الوجيه نموذج متكرر في المجتمعات، وليس منا من أحد لم يواجه نموذجاً أو أكثر من هؤلاء، خلال حياته، فجأة تكتشف أن أحدهم لمع نجمه أو احتل موقعاً في المجتمع أو العمل، وسوّق نفسه على أنه أهل لموقعه ومكانته، وأخذ يغذي باستمرار ودون توقف أذهان المجتمع بالصورة النمطية الجديدة التي رسمها لنفسه، حتى يقتنع الجميع بوضعه، ويصنع لنفسه هالة لا يخترقها الآخرون، وبما أن أغلب الناس يتعاملون مع الشخص المقابل على أساس ما هو عليه أو ما يظهره لهم، دون البحث في حقيقته، فإن انطباع المجتمع العام سيكون على ما أراد هذا الشخص، وبالتالي يراجع أحدهم نفسه ألف مرة قبل أن يتخذ موقفاً ضده لمخالفة أو لسوء سلوك بدر منه، فقط لمكانته وموقعه، بل تجد أن هذا الشخص تسند إليه أمور تعزز مكانته وترفعها، حتى يسري شعور في نفوس أكثر من حوله يفيد بعدم إمكانية الاستغناء عنه، وأن عدم وجوده في موقعه سيسبب مشاكل، وبالتالي تحمله بتجاوزاته هو أفضل من عدم وجوده، تحت شعار «الشين اللي تعرفه أحسن من الزين اللي ما تعرفه» وفي الواقع وجود أمثال هؤلاء في مواقعهم الاجتماعية أو الوظيفية ليس مشكلة واحدة إنما هو أساس ومنبع لمشاكل كثيرة ومستمرة، وكل واحد من هؤلاء بحاجة إلى مدير تجنيد يظهر للآخرين وضعه الحقيقي ويبعد أذاه عن المجتمع ويجعله نافعاً فيما يجيده.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية