من بين ذكرياتي في بداية التسعينيات عندما كنت طالبا في جامعة بغداد، ومن حسن حظي أنه في تلك الفترة كانت الجامعة عامرة بما تبقى من أساتذة الحقبة الذهبية للجامعات العراقية، أذكر ذلك اليوم الشتائي البارد، عندما وصلت إلى قاعة الدرس قبل الساعة الثامنة والنصف صباحا، وهو موعد المحاضرة الأولى، جلست بانتظار وصول أستاذي الذي كان منضبطا في مواعيده، أنيقا بمظهره، عالما باختصاصه وضابطا لقاعة الدرس، في ذلك الوقت كانت التعليمات في جامعة بغداد تمنع الطالب من الدخول إلى قاعة الدرس إذا بدأ وقت المحاضرة وكان الأستاذ داخل القاعة، ولم يكن في ذلك الوقت أحد يتجرأ على دخول القاعة بعد الأستاذ مهما كانت الأسباب، ومن «يتورط» في الاستئذان للدخول سيسمع من الأستاذ ما لا يسره، لكن هذه التعليمات كانت تستثني أول خمس عشرة دقيقة من المحاضرة الأولى، مراعاة لحركة المرور المزدحمة في العاصمة صباحا، ما يعني أن هذا الاستثناء ينطبق على محاضرتي تلك، التي كان أستاذنا يصل إليها في تمام الثامنة والنصف أسبوعيا، بالضبط دون تأخير أو تقديم، لكنه كان يجلس صامتا لمدة ربع ساعة، ويقول لا أبدأ المحاضرة حتى ينتهي وقت استثناء دخول الطلبة، بعدها يغلق باب القاعة بيده ويبدأ محاضرته، وفي ذلك اليوم دخل أحد زملائي المتأخرين بعد الثامنة والنصف؛ أي في الوقت المسموح للطلبة فيه بالدخول، وكان الطالب أحد أعضاء فريق الكلية لكرة القدم، ولديه مباراة في ذلك اليوم، فاستأذن للدخول، ودخل مرتديا ملابسه الرياضية، التي كانت في وقتها منتفخة ذات خليط من الألوان الزاهية -هكذا كانت الموضة- والعادة أن من يتأخر ويدخل ضمن وقت الاستثناء يشعر بالذنب ويدخل مسرعا، إلا أن صاحبنا دخل متبخترا مبتسما، بينما كان أستاذنا يتابعه بنظراته، حتى جلس في مكانه، عندها قال الأستاذ موجها كلامه لي حيث كنت في الصف الأول: (والله، لو كان الأمر بيدي، لما سمحت لأي طالب أن يدخل الجامعة بعد الثانوية قبل أن يؤدي الخدمة العسكرية، عندها لن ترى أحدا يدخل بهذه الطريقة).

مما لا شك فيه أن وضع التعليم تغير في العالم أجمع، وهو أمر طبيعي يتعلق بالتطور في المجالات كافة، فالعلاقة بين الطالب والأستاذ كان يغلب عليها الطابع الرسمي الصارم، وكان الأستاذ هو المتحدث الرئيسي، والمصدر الوحيد للمعلومة، على العكس من الوضع الحالي الذي يشجع الطلبة على التفكير النقدي والتفاعل خلال المحاضرة ويجعل الأستاذ أقل المتحدثين وقتا، وهذا التطور إيجابي ويعطي للطالب مساحة أوسع، وهي مدرسة حديثة في التعليم نقلت إلينا من الغرب، وعلى الرغم من الإيجابيات التي حملتها إلينا، لا ننكر أنها نقلت بعض السلبيات التي تتعلق بعلاقة الطالب بالأستاذ أو سلوكه المرن داخل الفصل، وهي سلوكات يعتبرها الطالب طبيعية، ويستغربها الأستاذ.

الواقع أن عملية التعليم الجامعي تشكلها وتؤثر عليها الجوانب الثقافية والاجتماعية والأعراف، وهذه الجوانب في الشرق تختلف عنها في الغرب، فثقافتنا تعتبر الأستاذ بمثابة ولي أمر آخر للطالب، وتحفظ للجلسة التعليمية المتمثلة بالمحاضرة هيبتها، في المقابل الثقافة في الغرب لا تعير أهمية لهذا الموضوع وتمنح المتعلمين مرونة أكبر داخل الفصل، فهناك من يأكل ويشرف وينشغل بأمور أخرى، والحقيقة أننا أمام تحدٍ يتمثل في إيجاد توازن بين توفير بيئة تعليمية مرنة، تمنح الطالب راحة وقدرة على الإبداع، وبين الحفاظ على هيبة الجامعة والأستاذ من خلال انضباط الطلبة وإظهارهم الاحترام للعملية التعليمية. [email protected]

شرق وغرب