في أربعينات القرن الماضي، ابتُلي ضابط جيش، في إحدى الدول العربية بمعاقرة الخمر، فوصل إلى حدّ الإدمان الأمر الذي أثر بشكل كبير على مسيرته المهنية، وذات يوم شاهده آمر الوحدة العسكرية التي يعمل بها وهو في حالة سكر أثناء العمل، فغضب، وقال له معاتباً: هل ستبقى في هذا الحال! أتدري لولا شربك للخمر لكنت اليوم في منصب آمر لواء! فابتسم وقال له: والله يا سيدي عندما أشرب الخمر أجد نفسي أكبر من وزير الدفاع!

الحقيقة، من الطبيعي أن يجد نفسه أكبر من وزير الدفاع، فتأثير الخمر على عقله جعله يحلّق عالياً حتى وضع نفسه في مرتبة رفيعة، لكن ما إن يذهب تأثير الخمر حتى يعود إلى رشده ويعرف منزلته ومكانته، ويتصرّف بشكل طبيعي، لكن من غير الطبيعي أن نجد بعض النماذج من البشر قد حلّقوا عالياً بغير خمر، ووضعوا أنفسهم في مكانة أعلى بكثير من واقعهم وقدراتهم دون أن يضعهم أحد فيها، وراحوا يقنعون أنفسهم بتفوقهم على الآخرين، مع أن واقعهم بسيط جداً إن لم يكن تافهاً، هذا النموذج من البشر تجده في الغالب دائم البحث عن التميّز، مع عدم قدرته على تقديم إنجاز ملموس، فيلجأ إلى بناء صورة متضخّمة لنفسه، قائمة على معايير وضعها بنفسه، ثم يظهر شعوره بالتفوق على الآخرين ويتعامل مع آراء وأفكار وأعمال الآخرين على أنها أقل أهمية وقيمة.

هذا النوع من البشر يعيش حالة من الوهم، ويضخّم باستمرار ذاته متجاهلاً الحقيقة، ويسعى باستمرار إلى التحكّم في المواقف، بل وحتى الحوارات، ويجعل من نفسه مرجعاً للمعرفة وفهم الأمور، ولا يتحمّل النقد، ويكون شديد الحساسية، المشكلة الأكبر تكمن في التعامل المستمر مع هذا النوع من البشر الذي يحوّل البيئة المحيطة به إلى بيئة سامة، مليئة بالسلبية والتوتر، ولا تسمح بالعمل الجماعي والتعاوني، وغالباً ما تنتهي بعدم التقدير والاحترام المتبادل.

هناك طرق كثيرة للتعامل مع هذا النموذج من البشر، منها الحفاظ على الهدوء في التعامل معهم، والصبر، وعدم شخصنة الأمور، والحفاظ على التواصل الفعّال معهم، والإشادة بهم والثناء عليهم إن تطلّب الأمر، لكن كل ذلك لا يغيّر من حقيقة أن هذا النموذج هو نموذج سيئ وضار لبيئة العمل ولا يصلح بحال من الأحوال إلى الإدارة والقيادة، فهؤلاء تربّعوا على قمّة الوهم.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية