ليس هناك من يسمح لنفسه بالتطاول على القمة الخليجية فيقلل من شأن القضايا التي طرحتها، والمسائل التي كانت على طاولة النقاشات التي استمرت ما يزيد على 48 ساعة من العمل المتواصل من وقت قادة مسؤولين، وخلفهم جيش من الخبراء والمستشارين. توقف القادة، كما رشح من وسائل الإعلام، عند قضايا التنمية بكل أوجهها الاقتصادية والاجتماعية والأهم منها السياسية، وغاصوا عميقاً في المخاطر التي تهدد أمن دولهم ومواطنيهم، وعرجوا على إمكانات التنسيق التي من شأنها تعزيز حضورهم إقليمياً على المستوى العربي، وعالمياً على خارطة العلاقات الدولية. وجميع هذه القضايا وربما أخرى لا تقل عنها أهمية، هي من صلب مسؤولياتهم، ومن الخطأ مناشدتهم بإغفالها.
لكن بعيداً عن كل ذلك، دون التقليل مما تمت مناقشته، هناك قائمة تطلعات المواطن الخليجي العادي لمثل هذه القمم، بما يحمله على أكتافه من مسؤوليات، وما يختزنه ذهنه من هموم يومية، هي الأخرى بحاجة إلى المعالجة، ولا تستحمل التأخير، وغير قابلة للتأجيل.
أول تلك القضايا، وربما أكثرها أهمية، وتمس الكيان الخليجي في إطاره الشامل، هي التماسك السياسي الخليجي، كي لا يقفز ذلك المواطن على واقعه، ويطالب بما هو أرقى من ذلك، فيقع ضحية أحلام مازال الوقت مبكراً كي تصبح حقيقة على أرض ذلك الواقع. رغبة المواطن الصادقة هنا هي رؤية شكل أرقى، مما هو عليه الحال اليوم، من أشكال التماسك السياسي الخليجي، يتبلور في مواقف محددة لا تمزقها أنانيات قطرية آنية. تسترجع ذاكرة المواطن، وهي تداعبها أحلام ذلك التماسك الذي نتحدث عنها، الموقف الخليجي الموحد من الغزو «الصدامي» لأراضي الكويت، وإجماع دوله على المشاركة في معركة تحرير الكويت، مهما كانت الكلفة التي يمكن أن يتحملها هذا القطر الخليجي أو ذاك. كانت محصلة ذلك الإجماع طرد الجيش «الصدامي» وعودة الكويت سالمة إلى أحضان الأسرة الخليجية.
لكن ما يقلق المواطن الخليجي، أن ذلك الإجماع إنما كان قراراً استثنائياً، مقارنة بما تلاه من مواقف خليجية متباينة من بعض المسائل العربية، ليست السورية والمصرية واللبنانية سوى الأبرز بينها. ينبغي هنا محاربة النزعات القطرية الباحثة عن مكاسب قطرية سريعة ضيقة الأفق محدودة الزمان، لصالح تلك الخليجية الرامية إلى الأهداف الاستراتيجية البعيدة، الواسعة الأفق الراسخة الأركان.
من التماسك إزاء القضايا الخارجية، إلى التكامل على المستوى الداخلي، وهنا تحضرنا القوانين والمراسيم التي تنظم العلاقة بين الدول الخليجية، وبطبيعة الحال بين مواطنيها. فحتى يومنا هذا لاتزال قوانين التجارة المعمول بها في بلدان مجلس التعاون الست، تميز دونما أي وجه للعدالة بين مواطن دولة وأخرى عندما يقرر مواطن دولة ما ممارسة أنشطة تجارية في دولة خليجية شقيقة. تستثنى من ذلك مملكة البحرين، التي تطبق قرارات القمم الخليجية بحذافيرها في هذا الميدان، حيث يخضع الجميع للقوانين التجارية ذاتها، دونما أي تمييز، عندما يتعلق الأمر بممارسة الأعمال.
ثالث تلك القضايا، لها علاقة بالسوق الخليجية المشتركة، والتي لا ننكر تعقيدات، ومن ثم صعوبات إنشائها، لكن هناك مسافة طويلة تفصل بين طريق الوصول إلى مستوى الجسم الواحد، وهو طموح ذلك المواطن، وبين الاستمرار في حالة التبعثر التي لانزال نقف على أعتابها حتى يومنا هذا. وقطع هذه الطريق لا يمكن أن يتم ما لم يضع القادة أقدامهم على بدايتها، وتدشين الخطوة الأولى فوقها. والخطوة الأولى لا تتم بمجرد القرارات، ولا تتحول إلى حقيقة من خلال النوايا، مهما كانت تلك النوايا صادقة والتمنيات مخلصة. يتطلع المواطن الخليجي إلى خطوة عملية ملموسة تنقله من حالة التشتت التي لم تعد مقبولة بمنطق العصر، إلى حالة التماسك التي تتطلبها قوانين الحاضر، ولن تقبل بها مقاييس المستقبل.
ربما من المبكر اليوم المطالبة بعملة موحدة، أو نظام مصرفي واحد، لكن ليس من الخطأ الدعوة إلى قوانين صارمة مطبقة تنظم انتقال البضائع، من دولة إلى أخرى، وإجراءات موحدة تخضع لها حركة الاستيراد والتصدير أو إعادة التصدير في نطاق الخارطة الخليجية.
ومن الاقتصاد، ينتقل المواطن إلى قضايا التعليم، وعلى وجه التحديد التعليم الخاص، الذي بات ينتشر كالفطر، لكنه فطر من الفئة السامة، حيث بات المواطن الخليجي يشاهد سرعة إنشاء المدارس الخاصة، تلاها أيضاً الجامعات والمعاهد العليا، دونما رقيب أو حسيب، وتحول التعليم من مهنة مقدسة إلى تجارة فاسدة، دون أن نستثني من ذلك بعض الحالات الاستثنائية المحدودة التي تثبت صحة القاعدة العامة، التي نحذر منها. وتكفي الإشارة إلى مخرجات التعليم التي باتت تشكل عبئاً ثقيلاً على سوق العمل في الدولة الخليجية الواحدة، وعلى النطاق الخليجي العام، مما دفع الدول الخليجية، دون استثناء إلى تفضيل مخرجات التعليم الأجنبية على تلك المحلية، وهو أمر لم يعد مقبولاً في دول تجاوز دخل الفرد فيها المعدلات الدولية.
ينتظر المواطن سياسة تعليمية خليجية تقوم على قوانين تربوية صارمة تضبط الممارسات التعليمية في كل دولة على حدة، وعلى المستوى الخليجي العام. وفي غياب تلك السياسة، يصبح مستقبل المخرجات التعليمية الخليجية في حكم المجهول.
وفي سياق هموم المواطن الخليجي، هناك أيضاً السياسات السكانية، في إطارها العام، الذي يبدأ بالسكن، وينتهي بمنح الجنسية، بما فيها منح الجنسية الخليجية لمواطن دولة خليجية أخرى، وهذه مسائل مترابطة، وتكتسب أهميتها المتزايدة من كونها سترسم معالم المجتمع الخليجي القادم، خلال الخمسين سنة المقبلة.
ومن التعليم، والإسكان نصل إلى الخدمات الصحية، والتي باتت هي الأخرى تعاني من تراجع نسبي، عندما تقارن بدول أخرى، ليست بالضرورة عظمى، من أمثال تلك الشرق آسيوية من أمثال كوريا وسنغافورة، بل وحتى تايلاند. والحديث هنا لا يقف عند بناء المستشفيات الحديثة، المزودة بمعدات متطورة، والخاضعة لأنظمة حديثة، بل يتجاوز كل ذلك كي يصل إلى الخدمات الصحية التي يتلقاها المواطن، عندما يضطره تدهور حالته الصحية إلى تلقي العلاج في أحد المستشفيات الخليجية، عندها سيجد ذلك المواطن نفسه أمام خيارين أحلاهما أكثر مرارة من الآخر: إما القبول بخدمات صحية دون المستوى المطلوب في مستشفيات الدولة، أو الاكتواء بنار الخدمات الباهظة الثمن، بشكل غير منطقي، في أحد المستشفيات الخاصة. هذا يتطلب حلاً سريعاً ومجدياً ينقذ ذلك المواطن، كي يتفادى تحوله إلى أحد ضحايا الخيارين.
باختصار، ما يريده المواطن الخليجي من قادته، وبعد الانتهاء من مناقشة القضايا المصيرية الكبرى، مثل الأمن الإقليمي، والتنمية الاقتصادية، أن يسخروا بعض الوقت كي يعالجوا هموم ذلك المواطن اليومية، فهي وحدها، في نهاية المطاف، القادرة على توفير الأمن الحقيقي للوطن الخليجي، وهي وحدها القادرة على تحويل خطط التنمية إلى مشروعات حقيقة ملموسة. وهي في نهاية المطاف لكفيلة بتوفير الأمن والاستقرار اللذين تحتاجهما خطط التنمية، ولا تستغني عنهما السياسات الأمنية.
وفي غياب ذلك، ودون التقليل من أهمية لقاءات القمة، ولا استراتيجية القضايا التي تناقشها، يستمر المواطن في أحلامه الوردية التي لن تنتشله منها إلا حلول تلك الهموم اليومية التي لا تكف عن مطاردته، وقض مضاجعه.