ما أن أنزل علم إمبراطورية اليابان قبل أيام من على صواري الأعلام بمطار البحرين الدولي بعد مغادرة ضيف البلاد الكبير «شينزو آبي»، حتى ارتفع علم كوريا الجنوبية ترحيباً بوصول الضيف الكبير الثاني «جونغ هونغ وون».
لم تكن زيارتا المسؤولين الكبيرين «شينزو» و»جونغ» مجرد زيارتين عابرتين لمملكة البحرين، بل كانتا بمستوى عالٍ من الأهمية سواء بالنسبة لحجم الوفد المرافق لكل منهما، أو توقيتهما للتأكيد على مكانة البحرين دولياً، أو من حيث كـمّ وطبيعة الاتفاقات التي تم التوقيع عليها بين المنامة من جهة وكل من طوكيو وسيول من جهة أخرى.
كما إن الزيارة التاريخية لجلالة الملك المفدى إلى اليابان «أبريل 2012» التي أعقبتها زيارة مماثلة لسمو ولي العهد «مارس 2013» أسهمتا في تطوير العلاقات البحرينية اليابانية ودعمتا مجالات التعاون بين المنامة وطوكيو اللتين احتفلتا العام الماضي بالذكرى الأربعين لإقامة العلاقات بين البلدين، في وقت تحرص فيه البحرين على علاقات متميزة ودافئة مع مختلف دول شرق آسيا أخذاً في الاعتبار الزيارات السابقة التي قام بها سمو رئيس الوزراء إلى كل من الفلبين وتايلاند.
لا يختلف اثنان على الثقل الاقتصادي والتجاري لكل من اليابان وكوريا الجنوبية من بين بلدان القارة الآسيوية، فإلى جانب «النمر الماليزي» و»التنين الصيني» هناك العديد من البلدان التي تنمو اقتصاداتها وتزداد تجارتها وتتضاعف استثماراتها بشكل مضطرد يسترعي انتباه دول العالم، وقبل 30 عاماً ظهر مصطلح «النمور الآسيوية» للتدليل على النمو الاقتصادي الكبير الذي تشهده سنغافورة وتايوان وهونغ وكونغ وكوريا الجنوبية، وهي دول كانت منذ الستينات فقيرة محطمة، ولكنها سرعان ما حققت قفزات مذهلة، وتحولت إلى دول مزدهرة.. وبالرغم من أن الحرب الأهلية الأخيرة في كوريا الجنوبية حصدت 4 ملايين مواطن، إلا أن هذه الدولة تمكنت من التحول إلى دولة صناعية رائدة تملك اليوم تاسع أكبر اقتصاد في العالم، كما إن معظم الدول الآسيوية كانت تعاني من شح في الثروات المعدنية والطبيعية، بل وشحّ في المياه العذبة مثل سنغافورة التي كانت تستورد مياه الشرب من ماليزيا!
أما تايوان فكانت مجرد جزيرة صغيرة للصيادين، ولكنها حققت قفزات اقتصادية مدهشة رفعت دخل المواطن إلى 13 ألف دولار ووضعتها في المركز الـ 23 ضمن أكبر اقتصاديات العالم.
ضيف البحرين «شينزو آبي» هو رئيس الوزراء السادس والتسعون لليابان، وهو أول رئيس وزراء ياباني تطأ قدماه «أرض ديلمون» التي تحتضن230 شخصاً من رعايا بلاده، إلا أن ما دفعه للمجيء من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى «لؤلؤة الخليج» هو حضارة البحرين العريقة وكنوزها التاريخية وشعبها المضياف وفرصها الاستثمارية المتعددة، لتتمخض عن زيارته نتائج واتفاقات مثمرة رتب لها «شيجيكي سومي» و»د. خليل حسن» اللذين يرأسان سفارتي اليابان والبحرين في البلد الآخر وبفضل جهود طاقم العمل بالسفارتين.
يجمع المراقبون على أن علاقات البحرين باليابان اصطبغت منذ عقود طويلة بصبغة تجارية استثمارية، ففي العام 1934 انطلقت أول شحنة من نفط البحرين إلى اليابان عن طريق البحر، فيما بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في العام 1972، وحالياً هناك 20 شركة يابانية تعمل في مشاريع متنوعة يجري تنفيذها في البحرين، كما تم إشهار جمعية الصداقة البحرينية اليابانية في العام 2008 لرعاية مختلف الأنشطة بين الجانبين.
«شينزو آبي» خلال زيارته القصيرة أشاد بالتقدم الاقتصادي والعمراني الملحوظ في البحرين، منوّهاً بالدور الذي تلعبه الحكومة البحرينية في جذب الاستثمارات الأجنبية من خلال تسهيل إقامة المشاريع الصناعية والتجارية المتميزة وتهيئة الأرضية الملائمة لها، مما يدفع بالعديد من المشاريع العالمية الضخمة لاختيار المنامة كمركز لعملياتها بمنطقة الشرق الأوسط.
ولعل أهم ما حصدته البحرين من ثمار زيارة «آبي» هو التوقيع على مذكرة تفاهم بين رئيسي وزراء البلدين، لقاء بين رجال الأعمال البحرينيين ونظرائهم اليابانيين، تدارس رفع القيود المفروضة على واردات الغذاء البحرينية من اليابان، زيادة عدد الطلبة البحرينيين الدارسين في اليابان، تسهيل الاستثمارات اليابانية في البحرين، تعزيز العلاقة الاقتصادية بين المنامة وإمبراطورية اليابان والدفع بهذه العلاقة نحو فضاءات أرحب.
وما يثلج الصدور اليوم كما جاء على لسان سمو رئيس الوزراء «إن العلاقة والتعاون بين دول مجلس التعاون واليابان تستحق أن تكون مثالاً للعلاقة القائمة على الاحترام المتبادل والسعي لتحقيق المصالح المشتركة».
ما إن غادر الياباني «شينزو» مطار المحرق، حتى هبط «جونغ» الكوري في أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء كوري جنوبي لمملكة البحرين منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين سيول والمنامة عام 1976 وهي الزيارة التي حرصت خلالها البحرين على الاستفادة من إمكانات كوريا بكافة الأصعدة، وضرورة تحقيق نتائج ملموسة بما يحقق المصالح المشتركة للجانبين عبر تعزيز التعاون بمجالات التجارة والاقتصاد والبناء والطاقة وغيرها.
زيارة الكوري «جونغ» تمخضت عن توقيع 3 مذكرات تفاهم: الأولى بشأن إنشاء قيادة أمنية في المناطق الحضرية، ومركز تحكم مع وزارة الداخلية، والثانية في مجال التجارة والصناعة والاستثمار، والثالثة بشأن التعاون في مجال التعليم الفني والتدريب، كما اتفق الجانبان على التعاون في مجالات النفط والصناعة والتعاون الدبلوماسي، وتنمية الموارد البشرية والنقل الجوي، ومكافحة الجرائم الإلكترونية، وحماية المجتمع من الأسلحة الكيميائية وتعزيز المركز المالي للبحرين، ومساهمة الشركات الكورية في مشاريع البنية التحتية، وفي قطاع البناء والمقاولات والبتروكيماويات والطاقة، والإسراع في بناء السفارة البحرينية في سيول، كما تم الترحيب بتأسيس جمعية صداقة بحرينية كورية في كل من المنامة وسيول.
وحيث إن مصطلح النمور الآسيوية مقتبس من مكانة «النمور» نفسها في الثقافات الآسيوية، فالنمر الآسيوي يتميز بسرعة حركته ومباغتته للخصوم، وهذا بالضبط ما فعلته دول شرق آسيا الصناعية كونها باغتت العالم بسرعة نموها وانتقالها لمرحلة التصنيع بطريقة حيـّرت أساتذة الاقتصاد في الغرب، كذلك الحال بالنسبة للاقتصاد البحريني الواعد والمتوثب كالفهد بفضل العديد من القفزات التي حققها ومايزال بشهادة الكثير من دول العالم وعناصر الاستثمار في المنظومة العالمية التي تختار المنامة مقراً لاستثماراتها ومقراً لمصارفها ومكاتبها الإقليمية.
بقي التذكير بأن «الفهد البحريني» على غرار «النمور الآسيوية» أيضاً يجيد الوثب العالي ويحرص على الاستثمار في الإنسان والمواطن نفسه، ورفع مستواه التعليمي والاقتصادي على وجه الخصوص، كما إن البحرين تعمل على إزالة العقبات التي تمنع استقطاب الاستثمارات الخارجية وتحقيق مركز متقدم في مفهوم الحرية الاقتصادية، بجانب الحرص على التركيز على التصنيع والتصدير مع الحفاظ على فائض تجاري، وهذا ما يجعل البحرين أرضاً خصبة لمزيد من النجاحات على الصعيد التجاري والاقتصادي والاستثماري منذ قدم التاريخ حتى يومنا هذا.