هناك خلط كبير يسود في أوساط المجتمع بشأن ممارسة «النقد»، وهي الممارسة التي كفلها دستورنا وتضمنها لوائحنا التنظيمية، طالما أنها ضمن الضوابط الصحيحة، وطالما أنها تمارس بأسلوب «أدوات البناء» لا «معاول الهدم».

لكن المشكلة تكمن في ذلك «الخط الرفيع» الفاصل بين عملية النقد، وبين التشهير والإساءة، وفي واقعنا الحديث يمكننا إضافة عامل ثالث يتمثل بعمليات «الانتقام».

لإيضاح القول أعلاه نحتاج للتوافق أولاً على «الثابت» الرئيس في عملية ممارسة أي نقد، وأعني هنا «المسوغ» أو «المبرر» أو لنبسطه أكثر بوصفه بأنه «الهدف».

لتحديد ذلك، عليك أولاً أن تجيب عن سؤال هام جدا، وهو: «لماذا تمارس النقد؟!»، والإجابة الصريحة مع نفسك هي التي تكشف لك دوافعك، والتي لو شذت عن مسألة «الإسهام في الإصلاح» و«محاربة الظواهر الخاطئة»، فإنك بالتالي تدخل منطقة ضبابية، لأن أهدافك لن تكون «نقية» تماما، وستجد أن هناك شوائب مرتبطة بها.

هناك من يمارس النقد لأجل النقد، حتى يقال بأنه «ناقد» ويحظى باهتمام جماهيري، خاصة مع تبدل النظرة المجتمعية للنقد، وتحوله من أسلوب راق ومحترم وممارسة حضارية، إلى ممارسات -في غالبها- فتوة وفرد عضلات وعلو الصراخ وتلويح وتهديد.

للأسف هناك من ينظر للمسألة بهذه الطريقة، والتي «تفرغ» العملية من محتواها، وتساهم في «انحراف» أهدافها، إذ أنت لست في وقت تحتاج فيه لـ«تضييع» أي قضية «هامة» تستوجب تفاعلاً سريعاً واهتماماً كبيراً من الدولة، بتحوير المعطيات إلى مسألة «تصفية حسابات»، هذا أسلوب خاطئ جداً، بإمكانه «تضييع المصلحة العامة» عبر طغيان «المصلحة الشخصية».

الأصح هنا يتمثل بممارسة النقد لأجل تحقيق المصلحة العامة، بحيث يكون منصبا على الأخطاء، يكشفها، يشخصها، يطالب بالحلول، ويصنع في أحيان كثيرة «حالة ضغط» على الجهات الرسمية لتتفاعل وتتحرك، خاصة لو ارتبطت الحالة التي يطالها النقد بوضع عام له تأثيراته على الوطن والمواطن. وسائل التواصل الاجتماعي فتحت مجالات واسعة لممارسة النقد، وكثير من هذه الممارسات -حينما افتقدت للوعي بأسس النقد الحضاري- تحولت لما يشبه «البلطجة الإلكترونية»، وصنعت لدينا منصبات مليئة بالاستهدافات الشخصية، وبالإشاعات والاتهامات، واستغلت في تصفية حسابات شخصية، سواء مع مسؤولين أو أفراد في المجتمع، في سلوك خاطئ تماماً، لأنه -وكما بينا أعلاه- يجعل القضية الرئيسة تضيع، وتحول الحراك إلى سجال شخصي أو فئوي، أو يسهل على من يريد الخروج منه والتنصل من المسؤولية بافتراض نظريات المؤامرة من تسييس وتنفيذ أجندات وغيرها من أعذار.

حينما تمارس النقد أبعد فكرة «الانتقام» أو «تصفية الحسابات» من ذهنك ولا تجعلها محوراً تتحرك حوله، بل مارس النقد «بتجرد» عبر تناول الظاهرة وتشخيصها من كافة جوانبها، وبالتأكيد لابد من إرجاع الأمور للمعنيين بها، سواء مسؤولين وغيرهم، عبر انتقاد «أدائهم» أو «سياسات عملهم» أو «الاستراتيجيات المطبقة» ومطالبتهم بتحمل المسئولية والتصحيح، بعيداً عن تركيز المسألة على شخوصهم بنزعة قوية وكأن ورائها رغبة في «الانتقام».

طوال عقدين من الزمان في بلاط صاحبة الجلالة «الصحافة»، تعلمنا من التجارب أن هناك فارقاً كبيراً بين النقد الذي يستهدف الظواهر السلبية ويطالب بالإصلاحات لأجل المصلحة العامة للوطن وأهله، وبين النقد «ضيق الأفق» الذي يستهدف الأشخاص بمستويات متقدمة في «الشخصنة» بما يوحي لك بنزعة انتقامية واضحة، والحالة الأخيرة قد نجد لها حضوراً ضئيلاً في الصحافة اليوم، لكنها مستفحلة بشكل واضح في وسائل التواصل الاجتماعي.

ورغم أن هذه المسألة «مثار جدل» وفيها تباينات نسبية في الآراء، إلا أن الثابت يظل هنا -لو أردنا العدالة والإنصاف- مرتبطا بعمليات المحاسبة والمسائلة والتقويم من قبل الحكومة لكثير من المسئولين في عديد من القطاعات حينما تتحول ممارساتهم وأساليبهم لأخطاء وتوثق في تقارير الرقابة المالية والإدارية، إذ غياب المحاسبة التي تصل لعلم رجل الشارع والمواطن، تقود لتراكمات في تخرين حالات الإحباط، وبالتالي حينما يجد الشخص متنفسا للتعبير عن رأيه، ترى البعض ينهج أسلوب «القصف العشوائي»، ويسل «السيف» على هذا المسؤول، ويرمي «القنابل العنقودية» على ذاك، وينسى القضية الرئيسية التي ستظل بلا حل.

حتى لو امتلك البعض دوافع لرد الدين -ولن أقول انتقام لأن الكلمة بحد ذاتها غير سوية في السلوك البشري، فالله المنتقم وحده- فإنه يكفي ممارسة النقد بأسس وأعرافه السليمة، يكفي فضح الممارسات الخاطئة، لتعرف الدولة والمجتمع كثيراً من الجوانب المظلمة والخاطئة لدى بعض المسؤولين، هنا أنت تؤدي دورك بمسؤولية مقترنة بالأسلوب الراقي والمتحضر، والمرتكز على المصلحة العامة أولاً وأخيراً.