في مهنتنا الصحافية.. تعلمنا كممارسين، وفي أروقة الجامعات والمحاضرات الأكاديمية والبرامج الاحترافية، أن من أهم أخلاقيات الصحافة الحياد والموضوعية، ومضينا في طريقنا وكثير منا يتشدق بموضوعيته وحياديته في عالم الصحافة والإعلام حتى في أشد المواضيع حساسية، تلك التي تمس أموراً في غاية الخصوصية من حياتنا أو تمس مصيرنا ومستقبلنا فردياً وجمعياً.

وبينما تتلمذنا على أيدي أساتذتنا الجامعيين على تلك الأخلاقيات، وجدنا أنفسنا نمارس ما يخالفها في كثير من القضايا «بتطرفنا» أحياناً تجاه قضايا معينة، ومازلت أتساءل منذ بدايتي في الكتابة الصحافية حول ما إذا كان إبداء الرأي على حقيقته وتسمية الأمور بأسمائها يمكن أن يطلق عليها تطرفاً، لا سيما في زمن أصبح فيه للتطرف مفاهيم عدة، وصار أكثرها شيوعاً التطرف الذي منشؤه الانحراف الفكري والذي يقود في محصلة الأمر إلى الإرهاب.!! فهل أصحاب الرأي الجاد أو متخذو المواقف إزاء قضايا تتعلق بمصالحهم أو بأوطانهم أو بانتماءاتهم متطرفون؟!!

أيضاً هناك بون شاسع بين الحديث عن الأمور بمنظور مصلحي بحت، يحدد مع من أصطف في كل قضية حسب مصالحي أو مصالح الفئات التي أنتمي إليها، وبين أن أقف مع الحق أياً كان، حتى ولو على حساب مصالحي ومصالح من حولي. في هذا السياق سيعترينا نزاع آخر حول الوطنية، وهل من الوطنية أن أنصر بلدي ظالماً كان أو مظلوماً أو أن أنصر الحق لأن في نصرته نصرة ضمنية لانتمائي الذي يعكس أخلاقي النقية الطاهرة ومعدني الأصيل، وتجنيب وطني الوقوع في أوزار عظيمة؟!! إنما هي أسئلة فلسفية مجردة.. لا أتعرض فيها بالقول لمصلحة شخصية بعينها، أو للحديث عن وطن محدد.

تفرض تلك الأسئلة نفسها لأننا أصبحنا في زمن الألقاب المجانية والتصنيفات الفورية التي سرعان ما يعتبرها المجتمع حقائق دامغة تتعلق بالفرد منا، وما أسهل أن يسبغ عليك صفة المعارض ما أن تنتقد أمراً ما في بلادك، وإن كان انتقادك بغرض التطوير والارتقاء، وما أسهل أن يخرجك بعضهم عن الملة لمجرد أنك ناقشت فكرة، قد يرفضها الدين بطريقة ما أو بعض «رجالاته»، فسرعان ما يحولونها لعقيدة تعتنقها، بينما أنت مازلت بصدد المناقشة لا أكثر..!!

في ظل مشهد سياسي مرتبك من أقصى الشرق الأوسط لأدناه، تتشعب القضايا، وتتعدد المواقف منها، بعضها مواقف رسمية تتخذها منظمات وحكومات، وأخرى فردية قد تتسق وتنضوي تحت سابقاتها وقد تستقل بذاتها. غير أن السؤال أيهما الحياد والموضوعية وأيهما الحق وأين يكمن العدل؟!!

* اختلاج النبض:

هل حان وقت استبدال «الحياد» في أخلاقيات المهنة الإعلامية بـ»العدل»، والبحث عن الحقيقة، فإذا كان الصحافي قائداً للرأي أو صانعاً له، فمن باب أولى أن يضمن صحة ما يقدمه من معلومات بوضعها في قالب العدالة، بإنصاف القضايا، لا تحييدها وتمييعها. مع الجزم بأن الحياد الذي نتحدث عنه إنما هو أكذوبة كبرى يتوارى خلفها القائمون بالاتصال.