والدي صحافي من الطراز القديم جداً جداً.. عندما يتحدث عن المهنية في العمل الصحافي، تخرج من «خشمه» ذرات غبار ناعم كأنها أنفاس تعبة من بقايا سيجارة عالية النيكوتين اشتراها مسافر لصديقه المدخن الشره بسعر مخفض من السوق الحر، وعندما يناقش يستحلب أفكارك استحلاباً رقيقا ندياً ناعماً كأنه يسعى فيك إلى نهر لبن لم يتغير طعمه وليست مجرد فقط محاولات لإقناعك بفكرته والبصم عليها بالعشرة.

كلما أكتب أجده ماثلاً أمامي بانتقاداته اللاذعة «وإن كانت بناءة» وشاخصاً بآرائه العميقة الجرئية الواضحة في رسالاتها، لم يُجدِني تملقه بالكتابة -سابقاً- عن قوميته وأمجاد جمال عبدالناصر، أو عشقه للسيدة أم كلثوم وعبقرية ذوقها في اختيار نصوصها وشعرائها، كما لا تنطلي عليه أساليب المداهنة، ولن تستطيع أن تبلغه لا بالمراء الظاهر أو تستفتي فيه أحداً.

فحينما أحاول أن أدغدغه بذكرى فوزه في سبعينات القرن الماضي بمبلغ 500 جنية جائزة من التلفزيون المصري، عندما أفحم مقدم برامج المسابقات الذي ظهر له فجأة في أحد شوارع القاهرة وسأله عن «أسماء خمس أغانٍ لثومة ليست فيها نقاط» وكيف أنه أجاب بلا تردد أو توقف: «الأطلال، الأمل، لسه فاكر، ولد الهدى، وحلم»..

ولكن دون جدوى، إذ سرعان ما يقصف جبهتي ويمد لسانه أمامي نكاية وكناية بفشلي في تمرير مشاريعي التملقية عليه، فيسألني سؤالاً أصبح وكأنه لازمة أو مصطلح معتاد لمثل هذه المداهنات ومحاولات الهروب: «هل أبونا آدم لديه سرة؟».. وأصل السؤال أن سيدنا آدم لم يكن بحاجة لحبل سري لنقل الغذاء والأكسجين أو الفضلات للأم فهل لديه حبل سري؟، ثم يستتبع سؤاله التعسفي بامتداد من نفس جنسه «وإذا كان جوابك نعم، وأنت تدري أن طول أبينا آدم 60 ذراعاً، فكم يبلغ طول حبله السري، علماً بأن طول الحبل السري اليوم يقولون إنه 50 سم، وأن قوام أطوال بني آدم في تناقص؟». فتراني تجاه تلك الفذلكة والمعادلة الفلسفية الرياضية باهتاً صامتاً معترفاً في نفسي بـ«صادوه».

الآن.. ومع التطورات المتسارعة لتقنيات الأجهزة اللوحية الذكية، وتصدر الإعلام الجديد مكان التقليدي الذي ينتمي إليه، أخذ يتنحى ويعترف صراحة بأن حمل الجناحين يثقله وهو الكاسر المتقحم، وهو قد بلغ مبلغ «عقاب محمود عباس العقاد الهرم»، ويردد: «وما عجزت عنك الغداة وإنما لكل شباب هيبة لا تهـر»، فأطارحه في نفسي خيفة واحتراماً: «لعينيك يا شيخ الطيور مهابة يفر بغاث الطير عنها ويهزم».

ما دعاني لكتابة هذه المقاربة، تسلطه الأبوي الغاشم وفرض رأيه الصحيح الذي أقتنع فيه منطقاً وأتحفظ عليه سلوكاً في الكتابة، وهو أن «كفى سياسة.. الشعوب ملت، كن معها فرحاً وأملاً وضحكة حلوة ومسرة، ولا تكن عليها غماً وهماً فوق ما تعانيه من كبد الحياة».

متعك الله بالصحة والعافية يا قدوتي وجميع والديكم.