ثمة الكثير من الشواهد على تاريخية التسامح الديني والتعايش السلمي في البحرين لعقود طويلة خلت، لعل أبرزها ما وثقه السير تشارلز بلغريف المستشار البريطاني لحكام البحرين في الفترة من 1926 ولغاية 1957 من القرن المنصرم في مذكراته، في فترة زمنية شهدت نشأة الدولة الحديثة وتحول البحرين من إمارة عربية صغيرة مغمورة إلى مركز تجاري وسياسي مهم في المنطقة مع اكتشاف الذهب الأسود.

في اقتباسنا لمذكرات السير والمترجمة إلى العربية من قبل المترجم البحريني مهدي عبدالله، يصف بلغريف حاكم البحرين الأسبق المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة بأنه "يتسم بمهابة طبيعية عظيمة، إضافة إلى كونه عطوفاً مراعياً لمشاعر الآخرين وحقوقهم ويبدي اهتماماً كبيراً بأمور الناس الشخصية. كما عُرف الشيخ حمد بعقله المتنور والمنفتح في قضايا الدين، وكان يشجع على أن يمارس كل فرد عقيدته الخاصة في البحرين بشرط عدم التدخل في دين الدولة (الإسلام)".

بلغريف يكشف في مذكراته بأن الشيخ حمد "أعطى ترخيصاً ببناء كنيسة كاثوليكية رومانية في البحرين ومنح الجالية المسيحية قطعة أرض في المنامة لهذا الغرض. وتقديراً من البابا لمكرمة الشيخ حمد منحه وسام الفارس، وهي درجة كهنوتية وفق الطقوس الكاثوليكية لتسليم الوسام إلى سموه".

وفي فترة حاكم البحرين المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، أبدى بلغريف رغبته في إنشاء كنيسة إنجليكية، حيث بادر الشيخ سلمان بمنح أرض قرب القلعة "مبنى الشرطة" لإنشاء كنيسة القديس سانت كريستوفر والتي تم افتتاحها في 13 مارس 1953. يذكر بلغريف في مذكراته كذلك بأنه قد "تم إنشاء كنيسة القديس سانت كريستوفر وتمويلها من مصادر محلية، ولم يكن هناك منحة من الجهات الحكومية المعنية بالشؤون الدينية في بريطانيا لتغطية مصاريف بناء الكنيسة.. ولم يتردد أحد في المساهمة في تمويل المشروع وجمع المساعدات المالية للكنيسة المسيحية، حيث اشترك أصحاب المحلات التجارية البحرينيون والهنود في دعم المشروع بسخاء".

عيد الميلاد المجيد "الكريسماس" ورأس السنة الميلادية، بحسب مشاهدات بلغريف "كانتا مناسبتين كبيرتين في البحرين. فالمواطنون ينظرون لهذين اليومين بنفس أهمية أعيادهم الخاصة تقريباً. وفي صباح الكريسماس يتدفق الزوار على الكنيسة منذ الساعة 8:30 صباحاً وحتى الساعة الواحدة ظهراً لتقديم التهاني وشرب القهوة، ويأتي للتهنئة رجال من مختلف الأديان من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس"، مما يعكس مدى ارتفاع سقف الحريات الدينية لدى حكام البحرين وشعب البحرين الذي يغمر الآخر المختلف بلطفه الكبير بغض النظر عن ديانته أو مذهبه أو عرقه أو لونه.

كذلك الحال بالنسبة للطائفة اليهودية في البحرين في تلك الفترة، إذ يسرد بلغريف أحوالهم بالقول: "كانت توجد في البحرين جالية يهودية يتراوح عدد أفرادها بين 300 و 400 شخص جميعهم يسكنون المنامة، إضافة إلى وجود عضو يهودي في مجلس المنامة لسنوات طويلة، وقد كان انشغالهم في التجارة والصرافة، وعملوا أيضاً كموظفين في مكاتب"، مما يدل على مدى تعاطي المجتمع البحريني بود ومحبة مع الطائفة اليهودية وسط أجواء مسالمة، ولم يفرض عليهم أي قيود أو عراقيل، بل كانوا سواسية مع المسلمين في كل شيء.

العديد من الخصال الحميدة عبر عنها بلغريف في وصفه للمجتمع البحريني، حيث يقول في مذكراته: "الميزة الملاحظة بين البحرينيين هي الثقة التامة بين الناس.. فمن المعروف أن سعر اللؤلؤة الواحدة يبلغ آلاف الدنانير، لكن تاجر اللؤلؤ لا يجد أي تخوف أو تردد في تسليمها لرجل بعد آخر لكي يبقيها عنده لأسابيع عديدة بدون وصل استلام".

مشاهدات بلغريف لم تتوقف عند هذا الحد، بل كان يمتدح في أكثر من مناسبة نعمة الأمن والأمان التي كانت تتمتع بها البحرين إذا ما قورنت مع دول أخرى اشتغل بها قبل مجيئه للبحرين، ذاكراً ذلك بقوله: "بلغ عدد السجناء في 1957 أقل من 50 شخصاً، وهو عدد ضئيل جداً بالنسبة لدولة يبلغ عدد سكانها آنذاك 125 ألف نسمة وذلك عندما تقارن بعدد أو بنسبة السجناء في أي دولة شرقية. وهذا دليل قاطع على ندرة الجرائم المرتكبة وعمليات القتل في البحرين مقارنة مع باقي الدول. كما يتسم رجال الشرطة في البحرين بالتضامن وروح الجماعة التي يفتقد إليها الشرطة الأجانب".

حالة الأمن التي كانت تسود البلاد على حد وصف بلغريف قد ساهمت كثيراً في خلق حياة اجتماعية بهيجة وسعيدة في تلك الأيام، مدعومةً بقيادة حكام معتدلين في التفكير وعلى دراية تامة بأحوال الناس، وحريصين كل الحرص على تطوير مؤسسات الدولة وتلبية احتياجاتهم المعيشية على الدوام.

يؤكد بلغريف خلال فترة عمله طوال 31 عاماً في البحرين، أن الكثيرين من الناس الأوروبيين والأمريكيين يتذكرون الأوقات السعيدة وكرم الضيافة التي استمتعوا بها في البحرين، كما يعبر السير نفسه عن سعادته الكبيرة بسبب المعاملة اللطيفة والكرم والتفهم الذي غمره بهما حاكما البحرين الشيخ حمد والشيخ سلمان، وتقدير البحرينيين بصورة عامة لما كان يقوم به من أعمال حتى من أشد المعارضين له.

يصف بلغريف أيضاً مشاعره تجاه البحرين بعد قضائه 3 عقود في خدمة المغفور لهما بإذن الله تعالى الشيخ حمد والشيخ سلمان قائلاً: "حبي وحنيني للبحرين واهتمامي بتطورها يزداد يوماً بعد يوم.. أول ما يشاهده الزائر لمنزلنا في بريطانيا صورة سيدي الشيخ سلمان الذي لن ننسى أنا وزوجتي مارجوري أبداً ما غمرنا به من حب وحنان وتقدير وسخاء هو ووالده من قبله الشيخ حمد".

شواهد الانفتاح على الآخر بود ووئام وحب الخير للجميع على اختلاف مشاربهم المذهبية والعرقية لا حصر لها في تاريخ البحرين، فزمان التعامل بعملات الآنات والروبيات و"عيون الأسماك" المقصود بها اللآلئ يثبت للعالم مدى غنى البحرين بحكامها المعتدلين وحكوماتها المتعاقبة وشعبها المعطاء بأخلاقهم واحترامهم لبني البشر. "هذه البقعة من العالم الشبيهة بفص الخاتم الذهبي المرصع بالمجوهرات" كما وصفها بلغريف هي نموذج بشري فريد يواصل ثراءه الأخلاقي وزرع جذور التسامح والتعايش السلمي في كافة أرجاء البسيطة.

من حمد إلى حمد.. ينتظم عقد لؤلؤي متشابه الحبات يندر وجوده ويصعب جمعه بصبغة من التسامح والتعايش السلمي، التاريخ يعيد نفسه مع سير صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى – حفظه الله ورعاه – على خطى أجداده ومؤسسي البحرين في ترسيخ قيم العدالة والعطاء وحب الخير والسلم مع جميع أبناء آدم وحواء، ومعاملتهم سواسية دون أي تفرقة أو تمييز يذكر.

* أمين عام مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي