اليوم وبسبب التطورات التقنية والتكنولوجية الرهيبة والمتسارعة، وبسبب هوس الركض باتجاه «الرقمنة» وتحويل كل شيء إلى «تعامل إلكتروني»، بات أي قطاع بلا استثناء ساعياً لامتلاك هذه الخدمات إلكترونية باختلاف منصاتها سواء عبر موقع إلكتروني أو تطبيق، ويبدأ بالترويج القوي لهذه الخدمات حتى يستخدمها الناس كبديل عن التعاملات العادية والحضور لمواقع الخدمة كما كان يحصل سابقاً.

طبعاً ومن لا يملك ذلك ومن لم يدخل «عالم الرقمنة» بعد بغض النظر عن حجمه كقطاع وبغض النظر عما يقدمه من خدمات، يعد من ركب «المتخلفين» والقابعين في «العصور الحجرية».

البعض قد يقول بأن التوجه إلى «الرقمنة» أمر يساهم في التخفيف على الناس من خلال اختصار الوقت والجهد، بحيث تصبح كل الخدمات والمعاملات والممارسات اليومية متاحة من خلال ضغطات أزرار بسيطة في الهواتف المحمولة أو الألواح الذكية، وعليه فإن العملية كلها عبارة عن «إيجابيات» تصب في صالح الناس، فما المشكلة هنا؟!

نعم هذا صحيح، لكن لحظة هامة هنا قبل الجزم بـ“الكمال التام» لهكذا خدمات رقمية، إذ لابد من استيعاب أمور هامة من قبل مزودي الخدماتقبل الانغماس الكلي في «الرقمنة»، إذ العملية ليست بالمسارعة في «ركوب القطار « حتى نتساوى مع الراكبين الآخرين، بل العملية مرهونة بالقدرة على امتلاك «السيطرة الكاملة» على الوسائط التي نقدم الخدمات من خلالها، أي المشكلة فيمن يقدم الخدمة عبر المنصات الرقمية كـ“تسهيل على الناس»، حينما تقدم «الرقمنة» بشكل معوق يتسبب بـ“بهدلة» الناس ويعقد الأمور بدل تبسيطها، بل ويضاعف عدد الخطوات لتتم من خلال التطبيقات وتطلب من الناس القيام بخطوات إضافية أيضاً هي ذاتها التي كانوا يقومون بها قبل التحول «إلكترونياً».

حتى لا نعقد الكلام أكثر، نقول باختصار لكثير من الجهات الرسمية وحتى تلك الخاصة بأن التحول «الرقمي» أمر مطلوب وهام في زمننا هذا، لكن لابد قبل إطلاق الخدمات الإلكترونية وفتح باب استخدامها للناس، لابد أولاً من التأكد بأن عملياتكم من خلالها مكتملة ولن تتعرض لأعطال إلكترونية متكررة، وأيضاً لابد من التأكد من فعاليتها لا بأن يمضي المستخدم في خطواتها العديدة ثم في الخطوة الأخيرة «يطيح السيستم» وعليك أن تقوم بالعملية مرة أخرى أو تراجع خدمة العملاء في المكاتب كما كنت تفعل سابقاً، وأيضاً لابد وأن تتأكدوا من تدريب الموظفين كلهم على معرفة تفاصيل الخدمات الإلكترونية، إذ لا يجوز مثلاً أن يتوجه العميل لمكاتبكم ليشرح له الموظف كيف يستخدم «نظامكم الرقمي» فتصيبه الصدمة بأن الموظف لا يعرف كيف يعمل التطبيق أو الموقع الإلكتروني!

كتبت هذه السطور دون وضع أسماء لقطاعات رسمية على وجه الخصوص، وذلك للتنبيه وليحرص من انتقلوا من الخدمة التقليدية إلىالخدمات الإلكترونية على تجويد خدماتهم والتأكد من جهوزيتها قبل أن «يبهدلوا» الناس بتطبيقها، إذ هناك أمثلة عديدة، بعضها اختبرتها بنفسي واكتشفت بأن بعض الجهات وضعت نظماً رقمية لتقديم الخدمات وللتسهيل على الناس، فما كان إلا أن «تبهدل» الناس وباتوا يتعاملون مع تطبيقات معقدة وتتعطل بموازاة التعامل مع موظفين لا يعرفون أساساً كيف يستخدمون الخدمة.

باختصار، إن لم تكن جاهزاً ومستعداً للتحول «رقمياً» بخدماتك، وإن لم تضمن «السيطرة الكاملة» عليها، فرجاء لا «تبهدل» الناس بابتكار شيء «يعقد» الأمور بدل «تبسيطها».