بعد أسابيع من اقتياده عن طريق مسلحين من داخل منزله في حي أبي سليم بالعاصمة الليبية طرابلس، ظهر ضابط الاستخبارات الليبي السابق أبو عجيلة مسعود المريمي المتهم بصنع القنبلة التي هوت بطائرة "بان أميريكان" فوق لوكيربي بأسكتلندا، في واشنطن، فكيف وصل من طرابلس مروراً بمصراتة إلى واشنطن؟

في تقرير يستند إلى أقوال أربعة مسؤولين أمنيين وحكوميين ليبيين، سردت وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية تفاصيل الرحلة التي بدأت مع وصول مسلحين ليبيين بعد منتصف ليلة مبكرة من نوفمبر، على متن شاحنتين إلى مبنى سكني في حي أبو سليم بالعاصمة طرابلس، ليقتحموه ويقتادوا رجلاً في السبعينات من عمره معصوب العينين.

هدف هؤلاء المسلحين لم يكن سوى أبو عجيلة مسعود المريمي، المطلوب لدى الولايات المتحدة لدوره المزعوم في التفجير الذي أدى إلى سقوط وتحطم طائرة خطوط "بان أميركيان"، رقم 103 فوق لوكيربي، بأسكتلندا عام 1988، في طريقها من أمستردام إلى نيويورك، وأودى بحياة 259 شخصاً كانوا على متنها و11 على الأرض.



وتتهم الولايات المتحدة أبو عجيبة بأنه صانع القنبلة التي أدت لتفجير الطائرة.

أبو عجيلة في واشنطن

بعد أسابيع على الغارة الليلية، أعلنت الولايات المتحدة، أن أبا عجيلة قيد الاحتجاز لديها، في خبر فاجأ العديد من الليبيين، المنقسمين بين حكومتين متنافستين.

محللون اعتبروا أن حكومة رئيس الوزراء المقال من قبل البرلمان، عبد الحميد الدبيبة، والتي تتخذ من طرابلس مقراً لها، والمسؤولة عن تسليم أبي عجيلة، كانت تسعى إلى رضا الولايات المتحدة وسط نزاعات القوة في ليبيا.

من طرابلس إلى مصراتة

وروى أربعة مسؤولين حكوميين وأمنيين ليبيين مطلعين على العملية التي جرت لـ"أسوشيتد برس" تفاصيل الرحلة التي أوصلت أبا عجيلة إلى واشنطن.

المسؤولون قالوا إن العملية، بدأت باقتياده من منزله في حي أبي سليم بطرابلس، ثم نقله إلى مدينة مصراتة الساحلية، وتسليمه إلى العملاء الأميركيين الذين وضعوه على متن طائرة إلى خارج البلاد.

وقال المسؤولون الذين تحدثوا شريطة عدم ذكر أسمائهم، إن الولايات المتحدة كانت تضغط منذ أشهر لتسليم أبي عجيلة. وأضاف أحدهم: "في كل مرة تواصلون معنا، كان أبو عجيلة على الأجندة".

"تسليم قانوني"

في ليبيا، شكك العديد في قانونية الطريقة التي تم اقتياده بها وإرساله إلى الولايات المتحدة، بعد أشهر وجيزة على إطلاق سراحه من سجن ليبي.

ولا تملك ليبيا والولايات المتحدة اتفاقية لتسليم المطلوبين، ولم يكن هناك أي التزام على حكومة الدبيبة لتسليمه.

البيت الأبيض ووزارة العدل الأميركية، رفضا التعليق على تفاصيل تسليم أبو عجيلة. لكن مسؤولين أميركيين قالوا سراً، إنه من وجهة نظرهم، فإن العملية جرت "وفقاً لقواعد تسليم المطلوبين عبر عملية قضائية عادية".

وقال مسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، السبت، إن نقل مسعود كان قانونياً، ووصف عملية التسليم بأنها "تتويج لسنوات من التعاون مع السلطات الليبية".

صمت وشائعات

في ليبيا، فتح المدعي العام الليبي تحقيقاً، إثر تلقيه شكوى من عائلة أبي عجيلة، لكن حكومة طرابلس ظلت صامتة لنحو أسبوع تقريباً بعد الإعلان الأميركي عن أن المتهم بحوزتها، فيما كانت الشائعات تدور لأسابيع حول اختطاف مسعود وبيعه من قبل جماعات مسلحة.

وبعدما ضج الرأي العام بالحادثة، أقر رئيس حكومة طرابلس عبد الحميد الدبيبة، الخميس بأن الحكومة سملت مسعود إلى واشنطن، وقال في خطاب إن "البوليس الدولي (الإنتربول) أصدر مذكرة توقيف بحق مسعود"، مضيفاً أن "هذه مذكرة قبض، وصار لزاماً علينا التعاون في هذا الملف من أجل مصلحة ليبيا واستقرارها".

ولم يرد متحدث باسم حكومة الدبيبة على طلب الوكالة للتعليق على الأمر.

وفي 12 ديسمبر قالت وزارة العدل الأميركية، إنها طلبت من "الإنتربول" إصدار مذكرة توقيف بحقه.

أبو عجيلة بعد سقوط القذافي

بعد سقوط الزعيم الليبي معمر القذافي عقب احتجاجات 2011 التي تحولت إلى حرب أهلية، احتجز مسعود، الذي كان خبيراً للمتفجرات في الاستخبارات الليبية، من قبل مسلحين في غرب ليبيا.

وقضى مسعود 10 سنوات في سجن في طرابلس، على ذمة جرائم تتعلق بفترة حكم القذافي. وأطلق سراحه في يونيو الماضي، بعدما قضى مدة عقوبته كاملة.

وعقب الإفراج عنه، وضع أبو عجيلة تحت مراقبة مستمرة، ولم يغادر منزل عائلته تقريباً في حي أبو سليم، وفقاً لمسؤول عسكري تحدث للوكالة.

ويسيطر على الحي "جهاز دعم الاستقرار"، وهو مظلة عسكرية يقودها القائد العسكري عبد الغني الككلي، وهو حليف وثيق لرئيس وزراء طربلس عبد الحميد الدبيبة، وتتهمه "منظمة العفو الدولية" بالتورط في جرائم حرب وانتهاكات خطيرة أخرى على مدار العقد الماضي.

تردد الدبيبة

وبعد إطلاق سراح مسعود، في يونيو، كثفت الإدارة الأميركية من مطالبها بتسليمه، وفقاً للمسؤول.

وبدت حكومة الدبيبة مترددة في تسليمه في بادئ الأمر، بسبب مخاوف من عواقب سياسية وقانونية، وفقاً لمسؤول في مكتب الدبيبة.

وقال المسؤول الليبي، إن المسؤولين الأميركيين واصلوا إثارة القضية مع الحكومة في طرابلس، ومع قادة المجموعات المسلحة هناك، والذين كانوا يتعاونون معهم.

ومع تصاعد الضغوط، قرر رئيس الوزراء ومساعدوه في أكتوبر تسليم مسعود إلى السلطات الأميركية.

وقال الخبير في شؤون ليبيا والزميل في "معهد الخدمات المتحدة" جلال حرشاوي، إن تسليم مسعود "جزء من حملة واسعة يقوم بها الدبيبة، قوامها منح هدايا للدول المؤثرة". وأضاف: "الدبيبة يحتاج إلى إسداء الخدمات للبقاء في السلطة".

الاستعانة بالجماعات المسلحة

وبعد عقد على الإطاحة بالقذافي، لا تزال ليبيا تعاني من الفوضى وغياب القانون، مع سيطرة الجماعات المسلحة على أجزاء واسعة من أراضي البلاد.

ومع ضعف قوات الأمن الوطنية، مقارنة بالجماعات المسلحة المحلية، المتحالفة معها حكومة الدبيبة بدرجة أو بأخرى، فإنه لإلقاء القبض على مسعود، طلبت حكومة الدبيبة من الككلي، الذي يشغل منصباً رسمياً في الحكومة، القيام بالأمر.

وناقش الدبيبة، قضية مسعود في مطلع نوفمبر مع الككلي، وفقاً لموظف في "جهاز الدعم والاستقرار". وعقب الاجتماع الذي دار بينهما، أبلغ الدبيبة المسؤولين الأميركيين بالقرار.

ووافق الدبيبة، أن يتم تسليم أبو عجيلة، خلال أسابيع في مصراته، حيث تملك عائلته الكثير من النفوذ. وعقب ذلك، حدثت الغارة في منتصف نوفمبر.

ليلة الغارة

هرع المسلحون إلى غرفة نوم مسعود، واعتقلوه، ونقلوه معصوب العينين إلى مركز احتجاز يديره "جهاز الدعم والاستقرار" في طرابلس. وظل هناك مدة أسبوعين قبل أن يتم تسليمه لجماعة مسلحة أخرى في مصراتة، تعرف باسم "القوة المشتركة - مصراتة"، وهي وحدة شبه عسكرية جديدة، تأسست كجزء من شبكة الجماعات المسلحة الداعمة للدبيبة.

وفي مصراتة، خضع مسعود، للتحقيق من قبل ضباط ليبيين في حضور ضباط الاستخبارات الأميركية، وفقاً لمسؤول ليبي تم إطلاعه على مجريات التحقيق.

ورفض مسعود، الإجابة عن أي سؤال بشأن دوره المزعوم في هجوم لوكيربي، بما في ذلك محتوى مقابلات تقول الولايات المتحدة إنه أجراها مع السلطات الليبية في 2012، واعترف فيها بأنه صانع القنبلة.

وأصر على أن احتجازه، وتسليمه غير قانوني.

"اعتراف"

وفي عام 2017، تلقت الولايات المتحدة نسخة من مقابلة أجراها مسعود في 2012 مع مسؤولين في ليبيا، وتقول إنه أقر فيها بأنه صنع القنبلة، وعمل مع متآمرين آخرين لتنفيذ الهجوم على الطائرة.

ووفقاً، لوثيقة من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي ضمن أوراق القضية، فإن مسعود قال إن الاستخبارات الليبية هي من أمر بالعملية، وأن القذافي شكره وأعضاء آخرين بعد ذلك.