د.إبراهيم عبدالله غلوم

ربما كان أكثر من عني بإبراز الدافع الاجتماعي والإنساني في سقوط بطل القصة القصيرة هو (أحمد سلمان كمال) الذي نشر مجموعة من القصص.. بمجلة (صوت البحرين) في الخمسينات أي في سنوات المعاناة الاجتماعية والسياسية.

ونجده في معظم ما كتب من قصص يدير الصراع بين الفرد والمجتمع وجميع شخصياته تحتضر من سورة هذا الصراع، وتستسلم لنوع من العجز والضعف الإنساني، إذ أنها لا تستطيع الخروج من محنتها أو مشكلتها الاجتماعية، ولا تهتدي إلى طريق أو خلاص. إنها تظل هائمة، ضائعة طريدة، تخرج من محنة أو مصيبة لتقع في أخرى، وتنفرج عليها إحدى الطرق لترتطم بأخرى، فلا تكاد تصل إلى النهاية إلا وقد فقدت قواها وسيطرتها وقدرتها في مواجهة الحياة، لذلك تلقى دائما المصائر المؤسية التي تفقد فيها كل شيء.



ففي قصة "جناية أب" نجد البطل يضطر إلى السرقة والدخول في السجن بعد أن عاش سلسلة من العذاب وأطوارا من الشقاء التي فتحت له أبواب المصير المؤسي في النهاية.. وجعلت السجن أفضل له من الحياة في المجتمع، وهذه بعض سمات الغضب الرومانسي التي تدور في سياقه شخصية القصة.

وندرك في أحداث القصة المليئة بالمواقف والتي تستوعب رقعة كبيرة من الزمن... أسباب المصير الذي يقع فيه البطل، فهي أسباب لا تخرج عن دائرة تفكك الأسرة وتمزقها نتيجة شيوع الطلاق، لقد رأى أمه وأخته الصغيرة عندما كان صغيرا تنتقلان إلى بيت من السعف، بعد أن طلق أبوه أمه، ولكنه لم يعرف معنى الطلاق، فيظل مع أخته وأمه حتى يكبرا وينتزعهما الأب من أمهما ليجعلهما يعيشان الذل والعذاب في خدمة زوجته الجديدة التي تؤذيهما كثيرا بل إنهما يتحملان المرض والجهل من أجل مواصلة العيش.

وحين تتوفى أمهما بعيدة عنهما يحرمان من الذهاب إلى جنازتها، وحينئذ يهرب الابن من بيت والده ليلقفه الشارع، فيعمل عملا شاقا لا يلبث أن يصاب بعاهة تلزمه الفراش فيضطر للاستجداء لكنه يواجه سخرية الناس وتدفعه كل هذه الظروف الاجتماعية إلى السرقة، أما أخته فقد اندفعت إلى الرذيلة كي تتمكن من مجابهة قسوة الحياة بمفردها.

وهذه الأحداث الكبيرة تسوق لنا الفكرة الأساسية التي يريدها الكاتب وهي أن ما يقع فيه البطل مع أخته من سقوط وانتهاء، لم يكن إلا بسبب قوانين المجتمع الفاسد التي أقرت للأب في البداية الحق في أن يمزق الأسرة بإعلانه الطلاق وتشريده للأم المسكينة، بل أقرت أن ينفصلا عن الأم ويذهبا إلى (الأب) الذي وضع البذرة الأولى للضياع والسقوط، ثم أقرت بعد ذلك سخرية الناس منه بدلا من العطف عليه.

فالمجتمع إذن هو الذي استلب من البطل كل شيء وجرده في النهاية من الأب والأم والأخت.. ومن العمل.. ومن الصحة.. ومن العطف ولكن البطل لم يستطع أن يفعل شيئا.. لأنه ظل عاجزا تجره قوى المجتمع إلى نهايته دون أن يكتشف سبيلا إلى التغيير، أو يهتدي الى خلاص فيكون عجزه وعدم إدراكه بابا موصدا.. وتكون نهايته صورة سلبية من صور الاحتجاج على قوانين المجتمع فهو يصرخ: "سرقت .. سرقت لآكل فقط.. سرقت لأنني كنت جائعا وأمامي كروش منتفخة: الجوع والحرمان، وقسوة الناس دفعت بي إلى ذلك".

فهذا الموقف يحمل لبوسا من البراءة لإثارة العطف، والشفقة ولكنه ينطوي على فردية سلبية ينكفئ عليها البطل لمجرد الصراخ والجلجلة باختلال النظام الاجتماعي.

ولعل في مجيء العرض القصصي على لسان البطل وبروايته ما يضفي تضافرا فنيا بين المادة والأسلوب من أجل الإعلاء من شأن الموقف الصارخ الذي تثور به الشخصية في القصة.

وفي قصة "المجنونة" نجد صورة أكثر قسوة وإثارة للمشاعر فيما تقود إليه تقاليد المجتمع المتخلف.. إذ إن البطل فيها "امرأة" يطرح الكاتب قضيتها الكبرى في الزواج عندما يرغمها أهلها على العيش مع رجل لا تحبه.. لأنهم أرادوا استغلال الرجل.. ويجعل الكاتب من ذلك مظهرا من مظاهر العصر التي تسيطر في النظرة المادية المجردة من العاطفة الإنسانية النبيلة... فكأن الكاتب يبحث من خلال هذه المشكلة عن الإحساس الإنساني والعطف والصدق... فقد كانت بطلة القصة فتاة جميلة. رباها والداها بأحسن تربية وأنفقا عليها الكثير حتى تعلمت وأنهت تعليمها، ثم جاء رجل كبير السن وخطبها من والدها.. فوافق حيث رأى فيه منقذا للأسرة من وضعها المعيشي البسيط، تكون البطلة ضحية لمثالية برجوازية في المجتمع التقليدي لا تعنى بالنسبة إلى الكاتب إلا أنها معنى من معاني التجرد من التعاطف: "لم تكن تعلم أنها تعيش في عصر سيطرت عليه المادة، وتغلغلت في جميع شؤونه، في عصر خال من القلوب اللينة الوادعة، التي تنعم بالإحساس النبيل، وتتمتع بالشعور الكريم، إنه عصر مادي بحت، فكل شيء فيه يباع.. يباع كأي سلعة، لا بل كل شيء فيه سلعة فالزواج والصداقة والصلات الإنسانية، كلها سلع لها أسعارها، وسوقها، ولها من يتقبلها ويشتريها، ويحرص على اقتنائها.. ولكنها - على الرغم من ثقافتها الواسعة لم تفطن إلى هذه الحقيقة المرة البغيضة".

من دراسة للدكتور إبراهيم عبدالله غلوم.. مجلة كلمات خريف 1983