قبل أيام، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، عن احتفائها بمناسبة اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، وعاصمة هذا الموسم هي مدينة "ستراسبورغ" الفرنسية، نظراً إلى تراثها الأدبي المتنوع وجهودها البارزة للنهوض بالثقافة والعناية بالقراءة كفعل مستمر لا ينقطع. وتعتزم المدينة، تفاعلاً مع المناسبة، تنفيذ "ألف" نشاط ثقافي لتزداد ألقاً على ألقها التراثي والسياحي، وحتى السياسي كمقر للبرلمان الأوروبي.
ومنذ تخصيص اليونيسكو لهذه المبادرة، التي توافق ذكرى وفاة عدد من الأدباء! ومنهم شكسبير، تم منح هذا اللقب لثلاثة عواصم عربية: الإسكندرية (2002)، وبيروت "2009"، والشارقة "2019"، ولا أدري إن كان ذلك الاختيار على أهمية رمزيته المعنوية بأن تعرب جهة دولية، مثل اليونيسكو، عن تقديرها لدور هذه المدن في تشجيع التأليف والقراءة، لا أدري، حقيقة، إن كان يغير من واقع الحال المتراجع معرفياً أو يعيد تصالحنا مع الكتاب.
فالواقع يقول، وبلغة الأرقام، بأن العرب يقرؤون بضع وريقات وفي أحسن الأحوال كتاباً يتيماً خلال العام الواحد، أما حركة التأليف والنشر فهي أيضاً تعاني من أنيميا حادة إذا ما قورنت بغزارة الإنتاج عالمياً. وأسباب هذا الإشكال عديدة، وأشهرها، كثرة ما هو متاح من وسائل إلهاء وتشتيت للانتباه وتضييع للوقت، لتخسر القراءة سحرها في الارتقاء بمنطق وفكر الفرد، ونتيجة لذلك، يفقد الجسم الثقافي أهم مدخلاته، وتبهت تفاعلاته مع غياب جماهيره من "قراء الثقافة".
وتنذرنا بعض الدراسات الاستطلاعية من تبعات انخفاض معدلات القراءة على حركة التأليف والنشر التي تعاني بدورها من تحديات ترتبط بارتفاع كلف الإنتاج، وقلة شبكات التوزيع والتسويق، وضعف الحماية القانونية لحقوق المؤلف مع اكتساح الكتاب الرقمي للورقي، وهو وضع يزيد من احتمالات هجرة القراء للمكتبات وإلى انحسارها مع الوقت لتصبح ذكرى تاريخية جميلة حالها من حال المتاحف الأثرية!
وبحكم هذا الواقع، نجد بأن حالة التنافر بين الإنسان و"خير جليس" في ازدياد، وبالكاد يعود الاهتمام بالقراءة في المناسبات الموسمية، وعندما تدق ساعة اليوم العالمي الفلاني لكذا أو كذا، وهي حالة، وللأسف الشديد، تشير إلى احتراف العقل للكسل الثقافي وتمرسه للبلادة الفكرية، إلى جانب كونها مؤشراً خطيراً لهشاشة البناء المعرفي الذي يؤدي إلى سهولة السقوط في فخ الهرج والمرج، والدخول، دون رجعة، في دهاليز الخرافات والأساطير وأنفاق التعصب والتطرف.
وبعيداً عن الشعارات الرومانسية المعسولة التي أتخمت النفس وأفخمت الذات بأننا "أمة اقرأ"، تستمر أغلب مجتمعاتنا العربية بالبقاء خارج نطاق المجتمعات التي تبجل الكتاب وتشجع على القراءة، بل تعتبرها أساساً لتنشيط الفعل الثقافي ودوره المسؤول في تهيئة متطلبات التنمية الإنسانية الشاملة، المستندة إلى الثراء المعرفي ومرونة التجديد الفكري.
وبدون شك، فإن مشكلة العزوف عن القراءة تستدعي اهتماماً "فوق العادة" يشمل المجتمع، بأفراده ومؤسساته، لإيجاد حل عملي ودائم لدمج سلوكياتها ضمن أساليب التنشئة والتربية وفي الخطط التعليمية والإعلامية، لتشجيع ثقافة القراءة "الحرة" التي تنتقي ما يغذي الفكر، والبعيدة كل البعد، عن ثقافة الاستنساخ والتلقين، التي هي آفة من آفات العقل وسبباً رئيسياً في عجزه واستسلامه، فلا يخرج عن "سائد ولا مألوف"!
وينبه الدكتور والكاتب الصحفي القدير، كمال الذيب، في مقالة بعنوان: الغرق في وحل الادعاء، "جريدة البلاد، 25 أبريل"، إلى ظاهرة أجدها مرتبطة بتدهور واقع القراءة وتراجع الاهتمام بها من قبل كافة الأطراف الفاعلة في الشأن الثقافي والتعليمي، رسمية كانت أو أهلية.
وتتمثل هذه الظاهرة في بروز فئة غارقة في "ادعاء" المعرفة، كما يصفهم د. الذيب، يتوهمون فهم كل شيء وبالقدرة على الفتوى في أي شيء، ويملؤون الساحات ضجيجاً باستعراض "جهلهم المركب". ويتراجع دور المفكرين والمثقفين الإبداعي والتوجيهي، على أثر هذه الفوضى والبلبلة الفكرية، فتكون المحصلة بحسب قول الكاتب، تساوي الإبداع بالبطيخ والفكر بالبصل!
وبالعودة إلى مظاهر الاحتفاء بالقراءة وطقوسها المؤقتة، وبالنظر إلى النماذج التي تحافظ على مكانة القراءة ضمن مشهدها الثقافي العام، وتجعلها في رتبة الزاد والقوت اليومي ووقود للتقدم الحضاري المتنامي، فإننا نعود لنتساءل: لماذا نجحوا في ذلك ولم ننجح بعد؟
هل لأنهم وجدوا بأن التنمية الثقافية المنتظمة والمستوعبة لمتطلبات التقدم العلمي هي المسئولة عن بناء الشخصية المنتجة والمتحضرة، كما إنها معنية ببرمجة العقل ليتخلص من رواسب التخلف ليكون أكثر استعداداً وأهلية للبحث والاكتشاف الدائم، كي ترتقي، في نهاية المطاف، منظومة المجتمع بإدراكها الكامل لاشتراطات الريادة العلمية والتفوق المعرفي الذي بدأنا نرى عجبه العجاب، بانتقاله من النطاق الأرضي المحدود إلى العالم الميتافيرسي الذي لم يكن يخطر على عقل بشر؟ .. ربما!
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة
ومنذ تخصيص اليونيسكو لهذه المبادرة، التي توافق ذكرى وفاة عدد من الأدباء! ومنهم شكسبير، تم منح هذا اللقب لثلاثة عواصم عربية: الإسكندرية (2002)، وبيروت "2009"، والشارقة "2019"، ولا أدري إن كان ذلك الاختيار على أهمية رمزيته المعنوية بأن تعرب جهة دولية، مثل اليونيسكو، عن تقديرها لدور هذه المدن في تشجيع التأليف والقراءة، لا أدري، حقيقة، إن كان يغير من واقع الحال المتراجع معرفياً أو يعيد تصالحنا مع الكتاب.
فالواقع يقول، وبلغة الأرقام، بأن العرب يقرؤون بضع وريقات وفي أحسن الأحوال كتاباً يتيماً خلال العام الواحد، أما حركة التأليف والنشر فهي أيضاً تعاني من أنيميا حادة إذا ما قورنت بغزارة الإنتاج عالمياً. وأسباب هذا الإشكال عديدة، وأشهرها، كثرة ما هو متاح من وسائل إلهاء وتشتيت للانتباه وتضييع للوقت، لتخسر القراءة سحرها في الارتقاء بمنطق وفكر الفرد، ونتيجة لذلك، يفقد الجسم الثقافي أهم مدخلاته، وتبهت تفاعلاته مع غياب جماهيره من "قراء الثقافة".
وتنذرنا بعض الدراسات الاستطلاعية من تبعات انخفاض معدلات القراءة على حركة التأليف والنشر التي تعاني بدورها من تحديات ترتبط بارتفاع كلف الإنتاج، وقلة شبكات التوزيع والتسويق، وضعف الحماية القانونية لحقوق المؤلف مع اكتساح الكتاب الرقمي للورقي، وهو وضع يزيد من احتمالات هجرة القراء للمكتبات وإلى انحسارها مع الوقت لتصبح ذكرى تاريخية جميلة حالها من حال المتاحف الأثرية!
وبحكم هذا الواقع، نجد بأن حالة التنافر بين الإنسان و"خير جليس" في ازدياد، وبالكاد يعود الاهتمام بالقراءة في المناسبات الموسمية، وعندما تدق ساعة اليوم العالمي الفلاني لكذا أو كذا، وهي حالة، وللأسف الشديد، تشير إلى احتراف العقل للكسل الثقافي وتمرسه للبلادة الفكرية، إلى جانب كونها مؤشراً خطيراً لهشاشة البناء المعرفي الذي يؤدي إلى سهولة السقوط في فخ الهرج والمرج، والدخول، دون رجعة، في دهاليز الخرافات والأساطير وأنفاق التعصب والتطرف.
وبعيداً عن الشعارات الرومانسية المعسولة التي أتخمت النفس وأفخمت الذات بأننا "أمة اقرأ"، تستمر أغلب مجتمعاتنا العربية بالبقاء خارج نطاق المجتمعات التي تبجل الكتاب وتشجع على القراءة، بل تعتبرها أساساً لتنشيط الفعل الثقافي ودوره المسؤول في تهيئة متطلبات التنمية الإنسانية الشاملة، المستندة إلى الثراء المعرفي ومرونة التجديد الفكري.
وبدون شك، فإن مشكلة العزوف عن القراءة تستدعي اهتماماً "فوق العادة" يشمل المجتمع، بأفراده ومؤسساته، لإيجاد حل عملي ودائم لدمج سلوكياتها ضمن أساليب التنشئة والتربية وفي الخطط التعليمية والإعلامية، لتشجيع ثقافة القراءة "الحرة" التي تنتقي ما يغذي الفكر، والبعيدة كل البعد، عن ثقافة الاستنساخ والتلقين، التي هي آفة من آفات العقل وسبباً رئيسياً في عجزه واستسلامه، فلا يخرج عن "سائد ولا مألوف"!
وينبه الدكتور والكاتب الصحفي القدير، كمال الذيب، في مقالة بعنوان: الغرق في وحل الادعاء، "جريدة البلاد، 25 أبريل"، إلى ظاهرة أجدها مرتبطة بتدهور واقع القراءة وتراجع الاهتمام بها من قبل كافة الأطراف الفاعلة في الشأن الثقافي والتعليمي، رسمية كانت أو أهلية.
وتتمثل هذه الظاهرة في بروز فئة غارقة في "ادعاء" المعرفة، كما يصفهم د. الذيب، يتوهمون فهم كل شيء وبالقدرة على الفتوى في أي شيء، ويملؤون الساحات ضجيجاً باستعراض "جهلهم المركب". ويتراجع دور المفكرين والمثقفين الإبداعي والتوجيهي، على أثر هذه الفوضى والبلبلة الفكرية، فتكون المحصلة بحسب قول الكاتب، تساوي الإبداع بالبطيخ والفكر بالبصل!
وبالعودة إلى مظاهر الاحتفاء بالقراءة وطقوسها المؤقتة، وبالنظر إلى النماذج التي تحافظ على مكانة القراءة ضمن مشهدها الثقافي العام، وتجعلها في رتبة الزاد والقوت اليومي ووقود للتقدم الحضاري المتنامي، فإننا نعود لنتساءل: لماذا نجحوا في ذلك ولم ننجح بعد؟
هل لأنهم وجدوا بأن التنمية الثقافية المنتظمة والمستوعبة لمتطلبات التقدم العلمي هي المسئولة عن بناء الشخصية المنتجة والمتحضرة، كما إنها معنية ببرمجة العقل ليتخلص من رواسب التخلف ليكون أكثر استعداداً وأهلية للبحث والاكتشاف الدائم، كي ترتقي، في نهاية المطاف، منظومة المجتمع بإدراكها الكامل لاشتراطات الريادة العلمية والتفوق المعرفي الذي بدأنا نرى عجبه العجاب، بانتقاله من النطاق الأرضي المحدود إلى العالم الميتافيرسي الذي لم يكن يخطر على عقل بشر؟ .. ربما!
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة