سيدة شقراء في منتصف العمر تعتمر قبعة أرجوانية، تحتضن قيثارة «جيتارا» حديثاً مع ظل ابتسامة على وجهها الدائري تنساب مع ألحان أناملها في زاوية المطعم الهادئ.. على بعد خطوات منها انشغل شاب عشريني أسمر البشرة يرتدي معطفاً رمادياً من الفرو بمراقبة السماء من منظار «مكبر»، وبينما كان في انشغاله الفريد يراقب النجوم كان طفل -بملامح آسيوية- يركض إلى مدخل المطعم مسابقاً وأمه التي تلاحقه في بهجة واهتمام.
من خارج تلك اللوحة الزيتية المعلقة في بهو المطعم تعالت أصوات كثيرة لأطفال في قسم الألعاب بالمجمع التجاري حيث تعودت أن أجلس على المقعد ذاته المواجه لتلك اللوحة حال رغبتي في الكتابة، كانت النظرة المطمئنة التي تنطق بها الوجوه الزيتية تشعرني «بالسلام»، وأن جميع من في اللوحة، وحتى زبائن يشتركون في لحظة اطمئنان وأخوة حيث الطعام والشراب واللعب الطفولي الذي يتحول في السمع إلى شيء أشبه بموسيقى تحفز على التوغل داخل الذات، فأغوص حيث تأخذني الحروف إلى مخاض يثمر مقالة أو بحثاً أو خاطرة ربما لم تكن في البال! إنه شعور عميق بالأمن يلازم الإنتاج، وعكسه تماماً أن تعصف بالمكان ثورات الصراخ والعنف فيخرج السلام من القلوب والعقول! فهل حاجتنا للأمن والسلم فطرة طبيعية؟ أم ضرورة معيشية؟
لا أستطيع نسيان مشهد «يمامة برية» اتخذت من «كوة» في منزلنا عشاً لها، وقد ألفت المكان زمناً، وتآنسنا بها، وتسابقنا على وضع الماء و»الحب» قريباً منها، فباضت وأفرخت، ثم بدأ أبناؤها يبحثون عن «فراغات» أخرى كي يبنوا أعشاشاً جديدة، ولكن الإضافات الجديدة في المبنى جعلت عمال البناء يزيلون عشها، ويفرقون نسلها غافلين عن آلامها، وتوقعنا أن مقامها معنا قد انتهى، وأننا لن نسمع بعدُ رفيفها أو هديلها بعد الذي حل بها! ولكن العجيب هو معاودة مبيتها فوق الجدران، وأطراف الأشجار حيث كانت ترسل هديلها الحزين المعبر عن أن قلبها مازال معلقاً ببيتنا الذي هو -وطنها- وفي ذات صباح جديد رأينا منها عجباً آخر، فقد عثرنا على «عش» جديد مؤقت شيدته على أفرع «شجرة رمان» ملاصقه لعشها الزائل، وكأنه الإصرار على محل طفولتها، ومرتع شبابها! ثم جاءت يد غليظة أخرى «لبنّاء» لم ينتبه لفطرتها في الانتماء، وحقها في السلام والأمان! فاجتث بمنشاره الشجرة من جذورها إذعاناً لضرورات عمله، وتناثرت أشلاء العش الجديد بما فيه من بيض وليد! إنها فطرة الخلق لدى الحيوانات والطيور والبشر وإرادة «المواطنة» التي لا تكتمل إلا برغبة البقاء والخلود ومواصلة مسيرة الحياة في مواجهة مسببات الفناء. وللحديث بقية.
{{ article.visit_count }}
من خارج تلك اللوحة الزيتية المعلقة في بهو المطعم تعالت أصوات كثيرة لأطفال في قسم الألعاب بالمجمع التجاري حيث تعودت أن أجلس على المقعد ذاته المواجه لتلك اللوحة حال رغبتي في الكتابة، كانت النظرة المطمئنة التي تنطق بها الوجوه الزيتية تشعرني «بالسلام»، وأن جميع من في اللوحة، وحتى زبائن يشتركون في لحظة اطمئنان وأخوة حيث الطعام والشراب واللعب الطفولي الذي يتحول في السمع إلى شيء أشبه بموسيقى تحفز على التوغل داخل الذات، فأغوص حيث تأخذني الحروف إلى مخاض يثمر مقالة أو بحثاً أو خاطرة ربما لم تكن في البال! إنه شعور عميق بالأمن يلازم الإنتاج، وعكسه تماماً أن تعصف بالمكان ثورات الصراخ والعنف فيخرج السلام من القلوب والعقول! فهل حاجتنا للأمن والسلم فطرة طبيعية؟ أم ضرورة معيشية؟
لا أستطيع نسيان مشهد «يمامة برية» اتخذت من «كوة» في منزلنا عشاً لها، وقد ألفت المكان زمناً، وتآنسنا بها، وتسابقنا على وضع الماء و»الحب» قريباً منها، فباضت وأفرخت، ثم بدأ أبناؤها يبحثون عن «فراغات» أخرى كي يبنوا أعشاشاً جديدة، ولكن الإضافات الجديدة في المبنى جعلت عمال البناء يزيلون عشها، ويفرقون نسلها غافلين عن آلامها، وتوقعنا أن مقامها معنا قد انتهى، وأننا لن نسمع بعدُ رفيفها أو هديلها بعد الذي حل بها! ولكن العجيب هو معاودة مبيتها فوق الجدران، وأطراف الأشجار حيث كانت ترسل هديلها الحزين المعبر عن أن قلبها مازال معلقاً ببيتنا الذي هو -وطنها- وفي ذات صباح جديد رأينا منها عجباً آخر، فقد عثرنا على «عش» جديد مؤقت شيدته على أفرع «شجرة رمان» ملاصقه لعشها الزائل، وكأنه الإصرار على محل طفولتها، ومرتع شبابها! ثم جاءت يد غليظة أخرى «لبنّاء» لم ينتبه لفطرتها في الانتماء، وحقها في السلام والأمان! فاجتث بمنشاره الشجرة من جذورها إذعاناً لضرورات عمله، وتناثرت أشلاء العش الجديد بما فيه من بيض وليد! إنها فطرة الخلق لدى الحيوانات والطيور والبشر وإرادة «المواطنة» التي لا تكتمل إلا برغبة البقاء والخلود ومواصلة مسيرة الحياة في مواجهة مسببات الفناء. وللحديث بقية.