195 حكماً و28 فتوى منذ 1945 كان لها تأثير قوي لتعزيز السلام

الآراء الاستشارية تتميز بقدرتها على تخطي العقبة الإجرائية

آراؤها غير ملزمة قانوناً لكنها تتمتع بسلطة كبيرة

الآراء الاستشارية تتميز بقدرتها على تخطي العقبة الإجرائية




قالت أستاذ القانون الدولي المساعد بجامعة البحرين د.مريم بوقحوص إن محكمة العدل الدولية قد أصدرت 195 حكماً و28 فتوى منذ عام 1945 حتى الآن، كان لها تأثير قوي في تعزيز السلام العالمي حتى قيل إنها أكثر أجهزة الأمم المتحدة فاعلية، وكان آخر الآراء الاستشارية في يوليو الماضي بشأن العواقب القانونية لانتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، واحتلالها وضمها الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967.
وأكدت خلال محاضرة إلكترونية نظمتها هيئة التشريع والرأي القانوني ضمن برنامج إضاءات قانونية، أن عبء العمل الثقيل وجدول القضايا المتنامي منذ 75 عاماً يظهر أن المحكمة لا تزال قوية وموثوقة وضرورية أكثر من أي وقت مضى.
وعرفت د.بوقحوص بالمحكمة، والتي يطلق عليها أيضاً محكمة العالم (World Court)، وتعتبر الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، فيما تتكون من 15 قاضياً تنتخبهم الجمعية العامة ومجلس الأمن، وتصل مدة انتخاب كل قاض إلى 9 سنوات، حيث يمثل القضاة أنفسهم وليس حكوماتهم.
العضوية والاختصاص
وأوضحت د. بوقحوص أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة هي أعضاء في محكمة العدل الدولية بشكل تلقائي، وأن لها اختصاصين: الأول تسوية المنازعات بين الدول، والثاني استشاري لإصدار الفتاوى القانونية، مؤكدة أن الاختصاص الأخير يشير إلى قدرة المحكمة على إصدار آراء استشارية بشأن المسائل القانونية بناءً على طلب من هيئات معينة مخولة بذلك، وأن تلك الآراء غير ملزمة قانوناً، لكنها تتمتع بوزن قانوني وسلطة كبيرة باعتبارها الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، ويمكن للمحكمة إصدار آراء استشارية بشأن أي مسألة قانونية، بغض النظر عما إذا كان هناك نزاع فعلي بين الدول.
وأوردت بوقحوص أمثلة على أهم الآراء الاستشارية التي أصدرتها المحكمة الدولية للعدل، وهي:
- الاتفاق مع القانون الدولي للإعلان الأحادي الجانب باستقلال كوسوفو 2010.
- مشروعية استخدام الأسلحة النووية في النزاعات المسلحة 1996.
- العواقب القانونية لبناء جدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة 2004.
- العواقب القانونية لفصل أرخبيل تشاغوس عن موريشيوس 2019.
- استمرار وجود جنوب إفريقيا في ناميبيا 1971.
وأشارت إلى نص المادة 96 الفقرة 1 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز للجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلبا من محكمة العدل الدولية إبداء رأي استشاري في مسألة قانونية، وقالت إنه يحق لهذين الجهازين تقديم السؤال القانوني مباشرة، ولا يشترط أن يكون مرتبطاً بمناسبة أو نشاط محدد.
كما نوهت إلى الفقرة الثانية من ذات المادة، والتي تسمح لسائر فروع الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة المرتبطة بها، بأن تطلب أيضاً من المحكمة إفتاءها فيما يعرض لها من مسائل قانونية داخلة في نطاق أعمالها، ولكن بشرط أن تسمح لها الجمعية العامة بذلك، وأن يكون السؤال القانوني في نطاق عمل المنظمة أو الهيئة، وقالت إن المحكمة رفضت في عام 1993 إعطاء رأي استشاري لمنظمة الصحة العالمية حول قانونية استخدام الأسلحة النووية، وبررت ذلك بأن السؤال المطروح لا يندرج ضمن نطاق وأنشطة صلاحية المنظمة.
تسوية المنازعات إلزامية ولا تستأنف
وبشأن عدم إلزامية القرار الاستشاري للمحكمة، أوضحت د. بوقحوص أن الأحكام القضائية التي تصدرها المحكمة بموجب اختصاصها في تسوية المنازعات تكون ملزمة ونهائية على الدول وغير قابلة للاستئناف، أما الآراء الاستشارية فهي غير ملزمة، ما لم تنص الجهة الطالبة صراحة على خلاف ذلك.
وعددت بوقحوص مزايا كون الرأي الاستشاري غير ملزم، بأنه يشجع الدول على تقديم الطلبات للحصول على إرشاداتها، وقد تجتذب بدورها دعماً أكبر لاستدعاء وظيفة المحكمة الاستشارية، وتؤدي إلى زيادة حجم الطلبات وقد تحفز الدول والكيانات الأخرى على التصرف وفقا لنتائجها.
وبينت أن المحكمة لا تكون ذات اختصاص إلا بموافقة الدول المتنازعة على اللجوء للمحكمة، أما الاختصاص الاستشاري فلا يشترط رضا الدول لأنه مقدم من جهاز من أجهزة الأمم المتحدة الأخرى، كما أن الرأي الاستشاري مجرد رأي وليس له قوة ملزمة، وبناءً على ذلك فإن أي دولة لا يمكنها منع صدور الرأي الاستشاري، الذي تعتبره الأمم المتحدة ضرورياً للحصول على توجيه بشأن مسار العمل الذي ينبغي أن تتخذه، ولا يعطى رأي المحكمة للدول، بل للجهاز الذي له الحق في طلبه، ويجب ألا يتم رفضه في المبدأ من أي دولة، ولذلك فإن اعتراض دولة على موضوع الاستشارة لا يمنع المحكمة من البت فيها، وهنا تظهر ميزة الآراء الاستشارية بأنها قادرة على تخطي العقبة الإجرائية، التي تقف عائقاً أمام وصول الكثير من القضايا النزاعية للمحكمة.
وحول الدافع لطلب استشارة من محكمة العدل، أكدت بوقحوص أنه يأتي كأداة لسد العجر الإجرائي الذي تعاني منه الأمم المتحدة، فمن الصعب حالياً الاعتماد على مجلس الأمن للقيام بدوره في حفظ السلم والأمن لانقسامه بين معسكرين شرقي وغربي، والجمعية العامة قرارتها غير ملزمة، لذلك يتم اللجوء للآراء الاستشارية كرد على الانتهاكات التي تقوم بها الدول للضغط عليها، وبيان عدم اتفاق موقفها مع القانون الدولي.
كذلك تلجأ له الدول عندما تعجز عن استخدام الاختصاص القضائي لفض المنازعات بأن يرفض أحد أطراف النزاع اللجوء للمحكمة، فهنا ولإثبات صحة موقفها القانوني تلجأ الدولة لطلب رأي استشاري.
تفسير المعاهدات
وفي القسم الثاني من المحاضرة تطرقت بوقحوص إلى تفسير المعاهدات، وقالت إن دور المحكمة يصبح أكثر أهمية، حيث يمكن أن تنسب بنود جديدة للمعاهدة استناداً إلى نية مفترضة للأطراف، وبذلك يكون للمحكمة الكثير من الصلاحية لتحدد محتوى ونطاق المعاهدة، وأوردت مثالاً على ذلك بشأن فتوى التعويضات التي فسرت المحكمة فيها ميثاق الأمم المتحدة ووجدت أن الأخيرة تتمتع بأهلية قانونية، وهو ما كان تطوراً فارقاً في القانون الدولي.
دور المحكمة في إنشاء العرف الدولي
ولفتت إلى تأثير المحكمة في إنشاء العرف الدولي، حيث تؤثر المحكمة في إنشاء القواعد القانونية العرفية من خلال مسارين: الأول عن طريق المساهمة في البذرة الأولى للعرف بوضع الرأي الاستشاري، بحيث يوجه سلوك الدول نحوه بشكل منظم. وقالت إن الفتوى لا تضع قاعدة قانونية واضحة، لكنها تضع نقطة مركزية في عملية صناعة العرف، وهذه المرحلة التشكيلية الأولى للقاعدة العرفية تؤثر في سلوك الدول بقوة؛ لأن الدولة التي تلتزم بالرأي الاستشاري تنال تأييد محكمة العدل الدولية، بينما الدولة التي تتصرف ضده لا تنتهك القانون الدولي، إلا أنها قد تكون محل استنكار وتحتاج إلى تبرير موقفها.
ترجمة السلوك المتكرر إلى قاعدة عرفية
وفي المسار الثاني، فإن الرأي الاستشاري يساهم في المرحلة الأخيرة في تقرير وجود العرف، ويحدث عندما يكون السلوك موجوداً بين الدول بشكل متسق ومتكرر، لكن لا يمكن الجزم بوجود قاعدة عرفية ملزمة بسبب عدم اليقين من وجود عنصر الشعور بالإلزام تجاه ذلك السلوك، وهنا تملك المحكمة ترجمة الممارسة إلى قاعدة عرفية صريحة بأن تؤكد في رأيها أن الممارسة القائمة تعد عرفاً دولياً ملزماً.
ونوهت بالرأي الاستشاري بشأن الأسلحة النووية، حيث أكدت المحكمة وجود قاعدة عرفية تطورت على مدى عقود، وهي أن الحقوق المنصوصة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لا يتعطل تطبيقها في زمن النزاع المسلح، وأن الدول ملزمة بحماية البيئة.
وبيّنت بوقحوص أهم النتائج التي توصل إليها الرأي الاستشاري، بشأن العواقب القانونية المترتبة على سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية والصادر بتاريخ 19 يوليو 2024، وكان من أبرزها: «أن وجود إسرائيل المستمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، وأنها ملزمة بوقف فوري لجميع أنشطة الاستيطان الجديدة وإخلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك أن المنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، ملزمة بعدم الاعتراف قانوناً بالوضع الناشئ عن وجود إسرائيل غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً أن الأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة التي طلبت هذا الرأي، ومجلس الأمن، يجب أن ينظروا في التفاصيل الدقيقة والإجراءات اللازمة لإنهاء وجود إسرائيل غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أسرع وقت ممكن».