تطرقنا في العمود في السابق لحق الدفاع الشرعي كأحد أسباب امتناع المسئولية الجنائية في القانون الدولي وسوف نتحدث في هذا العمود عن سبب آخر من أسباب امتناع المسئولية الجنائية في القانون الدولي وهو حالة الضرورة .

فحالة الضرورة هي حالة تقوم في القانون الجنائي الدولي والداخلي على السواء، وإن كان تطبيقها أوسع على النطاق الداخلي، ويقصد بها بصفة عامة الحالة التي تقتضي التضحية بإحدى مصلحتين مشروعتين عند القضاء بينهما، ويقصد بها في القانون الجنائي الدولي الحالة التي تواجه فيها الدولة خطرًا حقيقيًا حالاً أو وشيكًا يهدد كيانها ووجودها الإقليمي والشخصي أو نظام الحكم فيها، وترى هذه الدولة أنه في الحفاظ على استقلالها وأهليتها الأولية ما يبرر انتهاك المصالح الأجنبية لدولة أخرى يحميها القانون الدولي , وقدم "جلاسر" مثلاً لها بحالة ما تكون الدولة مهددة بمقتضى تقديرها الموضوعي للأمور بخطر جسيم حال أو وشيك الوقوع يهدد وجودها أو نظامها الاجتماعي الأساسي أو شخصيتها أو استقلالها، بحيث لا تستطيع تفاديه إلا بإهدار مصالح أجنبية مشروعة بمقتضى أحكام القانون الدولي , والمصلحتان التي يفاضل بينهما في حالة الضرورة مشروعتان، خلاف حالة الدفاع الشرعي حيث أن الحق الذي يزاوله المدافع يواجه فعلاً غير مشروع ويواجه آثمًا، أما في حالة الضرورة فيوجه الاعتداء إلى مصلحة بريء , ونظرًا لخشية الفقه الدولي الحديث من اتخاذ حالة الضرورة كحجة لتبرير الجرم الدولي أو لدفع المسئولية الناشئة عنه فقد رفض الاعتراف بها سواء أكانت كسبب إباحة أو مانع من موانع المسئولية، وكذلك فعلت محكمة نورمبرج إذ رفضت حالة الضرورة كمانع مسئولية بصفة عامة في دفوع التهميش من مجرمي الحرب , وقد اعترف الفقه الدولي والسوابق القضائية بحالة الضرورة إذا كانت بين فردين أو أكثر متمتعين بالشخصية الدولية إذا كانت ذات صفة حربية، بشرط أن تكون في إطار ما تقتضيه قوانين الحرب وعاداتها, ولكن هناك إجماع على أن الاستخدام المانع فيه لحالة الضرورة يفقد قوانين الحرب فاعليتها وحتى وجودها، لأنها كثيرًا ما تستخدم من جانب المنتصر لتبرير جرائمه التي سلكها، وتكون مخالفة لقواعد قانون الحرب.



وقد أكدت اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها الصادرة سنة 1949 على عدم ضرب الأهداف المدنية أو السكان المدنيين، ومراعاة مبدأ الإنسانية وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تقييد استخدام حالة الضرورة، وقد أكدت على عدم وجود أية ضرورة مهما كان نوعها تبيح الاعتداء على المدنيين فحظرت تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، كما حظرت كذلك مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين مهما كان الباعث، سواء لتجويعهم أو لحملهم على النزوح أو لأي باعث آخر .