تكتسب دورة انتخابات مجلس نواب 2018 أهمية خاصة ليس فقط لكونها خامس انتخابات نيابية، بخلاف الاستفتاء على الميثاق الوطني، ضمن سلسلة الدورات الانتخابية التي أجرتها وما زالت تجريها المملكة بعزم وإصرار لاستكمال متطلبات المشروع الإصلاحي لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه والذي انطلق مع بداية هذه الألفية الثانية، وما زالت خطواته تمضي قدماً للوفاء باستحقاقات التجربة الديمقراطية الوطنية، التي ألقت بظلالها الوارفة على كل مناحي الحياة في البلاد.

وبما أن هذه الدورة الانتخابية الجارية فصولها الآن مع عمرها المديد ودروسها المتراكمة فهي تعد بمثابة ثمرة الكفاح الوطني الذي بدأ منذ أكثر من عقد ونيف، واستهدف إرساء دعائم نهضة البحرين الحديثة القائمة على احترام الدستور وسيادة القانون، واحتل فيها أبناؤها موقع القلب ومحور الاهتمام، وتخطو حالياً بثبات نحو المستقبل لبناء منظومة متكاملة من الأسس والروابط والصلات التي تحمي عماد الوحدة الوطنية، وتحفظ ركائز أمن الوطن، وينعم فيها أهلها بالاستقرار والرخاء والتقدم.

ويعول كثير من المراقبين للشأن المحلي على هذه الانتخابات باعتبارها أساساً لازماً لمرحلة أخرى جديدة من مراحل العمل الوطني، مرحلة تتطلب فيها التحديات الراهنة رؤى واقتراحات ونهج غير تقليدية للتعاطي معها، لاسيما مع وطأة الظروف الإقليمية والدولية التي تفرض العمل بكل جد واجتهاد لمجابهتها والتصدي لانعكاساتها، ولبث الطمأنينة في النفوس بشأن الغد ومستقبل الأجيال القادمة من منطلق المسؤولية الوطنية والواجب المقدس الذي يجب أن يتحلى به الجميع في كل مواقع العمل والإنتاج.



لذلك، يرى هؤلاء المراقبون في الأجواء التي سادت قبل وبعد فتح مراكز الاقتراع، ومع توجه الناخبين لبدء عملية التصويت التي انطلقت بالفعل في الخارج يوم 20 نوفمبر الجاري، وصباح أمس السبت للمواطنين في الداخل، وكأنها تبشر بقفزة نوعية في تجربة التحول الديمقراطي بالمملكة خاصة، وفي مسيرة العمل السياسي بالبلاد عامة، ويفسرون ذلك بجملة من الأسباب:

أولها: الحرص على استمرارية النجاح، خاصة مع استلهام العبر والدروس من التجارب السابقة في تنظيم الانتخابات، وفي تعظيم مكتسبات العمل النيابي والبلدي طوال السنوات السابقة، وفي العمل على تجاوزها في دورة الانتخابات الحالية، ودليل ذلك عدة أمور جوهرية، كزيادة عدد المرشحين، الذي بلغ للاستحقاق النيابي الحالي 293 مرشحاً بالمقارنة بـ 266 و149 و207 و191 مرشحاً في دورات انتخابات 2014 و2010 و2006 و2002 على التوالي.

وكذلك زيادة الكتلة الانتخابية لتصل إلى 365467 بالنسبة للانتخابات النيابية و285911 ناخباً بالنسبة للانتخابات البلدية. هذا بالمقارنة بنحو 349 و318 و295 و243 و217 ألف ناخب لكل من انتخابات 2014 و2010 و2006 و2002 واستفتاء الميثاق 2001 على التوالي، الأمر الذي يعكس حقيقة ـ إضافة للنمو السكاني ـ تزايد الرغبة في الانخراط في إتون العمل العام، والحرص على المشاركة في أحد أهم محاوره المفصلية، وهي الانتخابات باعتبارها أولى بدايات التنشئة والتجنيد السياسيين.

هذا فضلاً عن نمو الوعي السياسي لدى أبناء الوطن الكرام ليس فقط بأهمية الانتخابات كآلية ضرورية لتفعيل المشاركة في المشروع الإصلاحي لجلالة العاهل المفدى حفظه الله، وإنما لأن هذه الانتخابات ودوريتها تعتبر منجزاً حضارياً يجب حمايته والحفاظ عليه، خاصة أنها ساهمت في إنجاح دور المؤسسات التمثيلية، وترسيخ دورها في القيام بأداء المهام المنوطة بها، وثبوت جدوى آلياتها ونجاح أدواتها التشريعية والسياسية في التعبير عن الرأي العام، وتكتيل اتجاهات الشارع، وتكوين المواقف إزاء قضايا المجتمع المختلفة.

واقع الأمر أنه بعد تقييم تجربة أربعة مجالس تمثيلية سابقة، يمكن القول إن إيمان الناس في البحرين بقدرة المجالس المنتخبة على مواصلة الإنجاز، وتمسكهم بالبنية المؤسسية القائمة، ومساعيهم الحثيثة دوماً لتطوير أدوات هذه المجالس عبر التصويت، وإمدادها عن طريق الانتخابات بما تحتاجه من رموز قادرة على قيادة الركب وتعظيم مستوى الأداء، كل ذلك يُعتبر برهاناً على ما يمتلكه مجلس نواب البحرين من مقومات ذاتية للأداء والتطور، وتجسيداً لنجاح المجتمع في اختيار وتحديد من يمثله ويعبر عنه، وتكريساً لقدرة الرأي العام على تقرير مدى صلاحية وجدوى هذا النائب والمرشح من عدمه.

وهنا يشار إلى مدى الحرص الشعبي على معالجة أي تحديات واجهت مجلس 2014 ـ 2018، وذلك عبر تزويده بما يحتاجه من دماء جديدة ربما يكون باستطاعتها مجابهة ظروف المرحلة القادمة، وإضافة مزيد من المنجزات والمكتسبات التي حققها المجلس المنتهية ولايته، والذي وُصف باعتباره الأكثر إصداراً للتشريعات، حيث وافق خلال الفصل التشريعي الرابع على 1114 موضوعاً، وطُرح على نوابه 481 موضوعاً، ونظر في 131 موضوعاً تتعلق بالشؤون المالية والاقتصادية، و34 موضوعاً سياسياً في الدور الرابع فقط من هذا الفصل، ووجه 300 سؤال للوزراء خلال الفصل التشريعي كاملاً بدورات انعقاده الأربع، وذلك بحسب تصريحات الأمين العام لمجلس النواب في 9 نوفمبر الجاري.

ثانيها: مستوى الإقبال الكبير على المشاركة في الانتخابات ، وهو ما يجد دليله في أكثر من ملمح ومظهر بدت خلال الشهرين الماضيين، وفور صدور الأمر الملكي رقم 36 لسنة 2018 الصادر في 10 سبتمبر الماضي، وحُدد فيه ميعاد الانتخاب والترشح لعضوية مجلس النواب.

ومن بين هذه الملامح والمظاهر أن عدد من تقدموا للترشح للانتخابات النيابية والبلدية بلغ في اليوم الأول وحده من بعد فتح باب الترشح في 17 أكتوبر الماضي نحو 240 مرشحاً، منهم 190 للنيابي و50 للبلدي، وهو يوم واحد فقط عكس مستوى الإقبال المنتظر وحدة المنافسة المتوقعة.

كذلك، وصل إجمالي عدد طلبات الترشح للانتخابات النيابية والبلدية في جميع الدوائر الـ 40 بنهاية غلق باب الترشح إلى 506 طلبات بزيادة لافتة عن أي انتخابات سابقة بالبلاد، منهم 346 للنواب و160 مترشحاً للمجالس البلدية، وذلك مع انتهاء فترة تقديم طلبات الترشح يوم 21 أكتوبر الماضي وقبل فتح باب الاعتراض والطعون وإعلان القوائم النهائية للمرشحين.

يضاف إلى هذا، مدى إقبال الناخبين الكبير على المراكز الإشرافية لمراجعة أسمائهم في جداول الانتخابات فور فتح باب المراجعة مطلع أكتوبر الماضي، حيث بلغ إجمالي عدد مراجعي الجداول على الموقع الإلكتروني وحده خلال 7 أيام 131640 ناخباً، فيما بلغ عدد الناخبين الذين قاموا بزيارة المراكز الإشرافية للتأكد من بياناتهم 2997 ناخبا خلال نفس المدة، وهو ما عكس عزم المواطنين على إنجاح مسيرة التطور الديمقراطي، ومن ثم المشاركة في الانتخابات والإقبال عليها.

هذا فضلاً عن الحرص الذي أبدته مؤسسات المجتمع المدني للمشاركة في الرقابة الوطنية على الانتخابات، وبلغ إجمالي عدد المراقبين من الجمعيات 231 مراقباً ينتمون إلى الجمعية البحرينية للشفافية وجمعية الحقوقيين البحرينية وجمعية البحرين لمراقبة حقوق الإنسان والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، وذلك بخلاف وكلاء المرشحين المسجلين رسمياً، والمكلفين ضمن مهام عملهم بالرقابة أيضاً على مجريات العملية الانتخابية.

ناهيك بالطبع عن مؤشرات الإقبال على المشاركة من جانب البحرينيين المقيمين والمتواجدين بالخارج، والذين أدلوا بأصواتهم في السفارات والبعثات والقنصليات يوم 20 نوفمبر الجاري (نحو 24 دولة و29 سفارة وقنصلية وبعثة دبلوماسية)، حيث أظهرت الكثير من التقارير الحضور اللافت للبحرينيين لمقار بعثات المملكة الدبلوماسية بالخارج للإدلاء بأصواتهم وممارسة حقهم الانتخابي، والذين بلغوا يوم 22 نوفمبر الجاري 3600 ناخب خارجياً (في دول عربية وغير عربية)، الأمر الذي يُتوقع معه أن تزيد نسبة المشاركة عن انتخابات 2014 والتي كانت قد زادت بنسبة 39.5 % مقارنة بعام 2010 بحسب تصريحات سفير مملكة البحرين لدى جمهورية مصر العربية يوم 21 نوفمبر الجاري.

وكان استطلاع للرأي أجراه مركز البحرين للدراسات على عينة من المستطلَعين الذكور والإناث بلغت 3345 فردا بكل المحافظات وتراوحت أعمارهم من 20 سنة فما فوق، وكشفت نتائجه التي تداولتها وسائل الإعلام في 12 نوفمبر الماضي، أن هناك اهتماماً بنسبة كبيرة من أفراد عينة الدراسة بالانتخابات، وأنهم أكدوا مشاركتهم فيها بنسب تتراوح بين 44 إلى 77 % من مجموع أفراد العينة.

ثالثها: الأجواء الداخلية المشجعة والمحفزة على المشاركة، ومن ذلك الضمانات التي يتيحها القانون، والإجراءات المتخذة لضمان نزاهة كل خطوات العملية الانتخابية، الرسالة التي وصلت لكل بحريني يحق له التصويت لأول مرة من جانب وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، الحملات الانتخابية التي انتهت قبل سويعات، وشهدت منافسة محمومة، واتبعت فيها العديد من الوسائل الشرعية للوصول لعقل وقلب الناخبين، فضلاً عن التكاتف الذي أظهره الجميع من أفراد ومؤسسات من أجل استكمال المسيرة الديمقراطية ودعمها لتحقق تطلعات الرأي العام في غدٍ أفضل.

هذا بالإضافة إلى الزخم الذي شهده الشارع البحريني ذاته طوال الشهرين الماضيين، وكشف ليس فقط عن دعم ومؤازرة الإرادة السياسية لجموع الناخبين حتى لا تتخلى عن حقوقها الدستورية والمكتسبات التي حققتها، وإنما كشف أيضاً عن دور كبير لمؤسسات المجتمع المختلفة والكتاب والمفكرين والصحافة الوطنية التي عملت بكد من أجل التوعية بأهمية المشاركة، ومواجهة أي حملات تدعو للحجر على إرادة الشارع، أو تغييب لرأي الناس في هذا المحفل المهم الذي لا يتكرر إلا كل 4 سنوات.

ولا شك أن لكل هذه الأجواء معاني ودلالات، فهي من جهة جددت التأكيد على الالتزام بالنهج الديمقراطي الذي تسير فيه البلاد بخطى ثابتة، وهي من جهة أخرى عبرت عن أهمية الوسائل السياسية الحضارية التي يتيحها المشروع الإصلاحي لجلالة العاهل المفدى لجموع المواطنين للمشاركة في واجب وطني لا يمكن التخلف عنه، وهو واجب وحق في اختيار من يمثل الناس من الكفاءات الوطنية القادرة على مناقشة قضايا المجتمع بكل أريحية.