لعل أبرز سمة من سمات المشهد الانتخابي الذي شهدته المملكة الأسبوع الماضي، هو الإقبال الكبير والتاريخي الذي شهدته مراكز الاقتراع لاختيار المرشحين للانتخابات النيابية والبلدية، والتي أشارت الإحصائيات الرسمية إلى أنها تجاوزت نسبة الـ 67%، كأعلى معدل للتصويت في الانتخابات في تاريخ مملكة البحرين، حيث أعطى هذا الإقبال رسائل واضحة ومتنوعة.

ويأتي في مقدمة هذه الرسائل تجسيد صورة تلاحم الشعب البحريني مع رؤية القيادة الرشيدة، والوعي بالتحديات التي تواجه المملكة، لاسيما مع محاولات التدخل المستمرة في شؤوننا الداخلية، وأن من أراد العبث بالمسيرة الديمقراطية لم ولن ينجح، وهذا ما بينته الانتخابات الأخيرة، فيما تشير الرسالة الثانية إلى إصرار أبناء الوطن المخلصين على نجاح التجربة البرلمانية والمناخ السياسي الديمقراطي التي أرساها عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه من خلال ميثاق العمل الوطني.

كما يشير هذا المشهد الانتخابي إلى نجاح مملكة البحرين في تحقيق جانب كبير من التوازن على صعيد رسم ملامح تركيبة المجلس الجديد، بحيث يكون أكثر شمولاً، وأن يتوافر به الخبرات والتنوع السياسي والفكري والعقائدي، مع ترشح عدد كبير من النساء والشباب للانتخابات، ونجاح عدد كبير منهم في الظفر بالمقعد النيابي من الجولة الأولى وبلوغ آخرين مراحل الإعادة في دوائر صعبة تشهد وجود مرشحين كانوا يتمتعون بثقل كبير، ودون الحاجة إلى اتفاقات مسبقة أو كوتا، مما يعكس وصول الناخب البحريني إلى مرحلة النضوج والوعي السياسي، ووصل إلى نتيجة مفادها أن التنوع في تشكيل البرلمان من مختلف فئات المواطنين يمثل متطلبات المرحلة المقبلة، وهي خبرة اكتسبها الناخب بعد معاصرته حياة نيابية امتدت لـ 16 عاماً، مر بها بمنعطفات عديدة، وأثير خلالها العديد من القضايا الهامة في مختلف المجالات، ووقف المواطن مراقباً لأداء وتفاعل النواب مع ما يطرح من نقاشات وقرارات تحت قبة البرلمان، والوصول إلى تقييم لكل نائب مع نهاية كل فصل تشريعي.



ولأن أداء معظم النواب في الفصل التشريعي المنصرم كان مخيباً لطموحات المواطنين حسبما يثار من نقاشات في الشارع البحريني، فقد قرر الناخبين تغيير المسار والتدقيق في اختيار شخصيات جديدة تسهم في تحقيق تطلعاتهم في الفصل التشريعي المقبل، لاسيما مع تزايد التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما نتج عنه خروج أغلبية النواب السابقين من السباق الانتخابي في دورته الأولى، مما أدى إلى تغير خارطة المجلس الجديد، واللافات هنا، أن الناخبين تنوعوا من حيث العمل والجنس والثقافة والمستوى التعليمي وغيرها من العوامل الديموغرافية، ورغم هذا التنوع نجح المواطنين في تحقيق إرادتهم.

كل تلك المعطيات السابقة أثارت ذاكرتي حينما بدأت مسيرتي الوظيفية في قسم البرامج التنموية ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مملكة البحرين، شاركت خلال الفترة ما بين عامي 2006 و2007 في إعداد برنامج التمكين السياسي، والذي كان نتاجاً لتعاون مشترك بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والأمانة العامة لمجلس النواب البحريني، ويهدف لبناء القدرات النيابية.

وخلال فترة عملي على هذا البرنامج كنت أقوم بزيارات دورية إلى الأمم المتحدة، وتم تنظيم عدد من الدورات التدريبية وورش العمل بهدف استعراض التجارب الدولية في مجال الحياة السياسية والبرلمانية، وكان أبرز نتاج ذلك البرنامج إصدار دليلاً إرشادياً لأعضاء المجلس النيابي، يهدف إلى التعريف بأبرز الجوانب القانونية، والحقوق والواجبات وتنظيم الاختصاصات للنائب، وقد أدى هذا الحراك إلى اهتمام أممي داعم لتجربة مملكة البحرين النيابية.

خلال تلك الفترة كانت هناك أحاديث كثيرة ومخاوف تدور في خاطري، مفادها هل ستحظى المرأة البحرينية بالثقة الشعبية اللازمة للوصول إلى المجلس؟ وما هي ملامح مستقبل النضج والوعي السياسي لدى الناخب والمرشح؟ وما نوع الدعم الفني الذي ممكن أن يتم تقديمه؟ هل من الممكن أن تتخذ مملكة البحرين التدابير التقليدية لضمان تمثيل المرأة والأقليات مثل الكوتا؟ وهل الوظائف التشريعية واضحة بالنسبة إلى طرفي المعادلة الانتخابية؟ فكما شهدنا في التشكيل الأول لمجلس النواب عام 2002 لم يكن للمرأة حظ في الانتخاب الشعبي، وربما كان هناك نوع من الاستحياء النسبي لتقدم المرأة و الشباب للترشح وإن كانت تلك المشاركة أخذت في الازدياد مع مرور السنوات.

وقد كان لي الشرف أن أحمل تلك الانطباعات الشخصية والتجربة العملية في الدعم الفني معي لدى قيامي بدراسة درجة الماجستير عن موضوع "السياسات العامة" في جامعة دنفر بولاية كولورادو بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي أحد المقررات حظيت بفرصة بأن أعمل لفترة وجيزة في المجالس التمثيلية لولاية كولورادو مع عضو مجلس الشيوخ الديموقراطي ورئيس مجلس الشيوخ لولاية كولورادو بيتر سي جروف، والذي أصبح بعد ذلك أحد الأعضاء البارزين في إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، كما كان أول عضو من أصل أفريقي-أمريكي يخدم كرئيس مجلس الشيوخ لولاية كولورادو.

وقد تعلمت في أروقة ذلك المجلس الكثير عن العناصر المؤثرة الرسمية والحقيقية لعملية السياسة، وقد خلصت من هذه التجربة إلى عدة نتائج، أولاً: أن مقومات المجلس الناجح تقوم على التوازن والتنوع بين كافة الأطراف وخاصة الأقليات والمؤثرين، ثانياً: أهمية الحاجة إلى التغير المستمر للتجاوب مع متطلبات السياسة العامة، ثالثاً: الحاجة إلى وجود ذاكرة مؤسسية موثقة للمجلس للتأكد من استدامة الأهداف مع تعاقب الأجيال على الانتساب لهذا المجلس.

واليوم وبعد مرور 16 عاماً ومروراً بمعاصرتي لتلك التجارب الدولية، ووصولاً إلى المشهد الانتخابي الأخير، فإن ذاكرتي قامت باستعراض الرحلة النيابية في المملكة، بدءًا من انطباعات السنوات الأولى لتشكيل مجلس النواب، التي شكلت نقطة انطلاقه المشروع الإصلاحي لسيدي حضرة صاحب الجلالة الملك المفدى وتدشين المسيرة الديموقراطية لمملكة البحرين، وما شهده ذلك الوقت من تضامن والتفاف حول القيادة بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني بنسبة تأييد بلغت 98.4%، ووصولاً إلى انتخابات 2018 والمشاركة الفاعلة بنسبة 67%.

وقد استخلصت من ذلك أن تجربة مملكة البحرين النيابية، وما شهدته من تحولات ونضج سياسي ورغبة في تنوع المجلس، قد تأخذ عشرات السنوات لنرى تطبيقها في دول ومجتمعات أخرى قد تسعى إلى وضع تدابير وأنظمة مقننة لتحقيق هذا التنوع، إلا أن البحرين استطاعت - ومن خلال أربع دورات انتخابية فقط - أن تختصر المسافات، وتتجاوز الكثير من التحديات، بفضل قيادة آمنت بقدرة الشعب البحريني على اختيار الأكفاء.

واليوم بات طموحنا لا يقتصر على وصول المرأة والشباب إلى قبة البرلمان، بل نطمح إلى تجاوز ذلك بأن يكونوا مؤهلين في يوم ما لشغل مقعد الرئاسة، خاصة وأنهم خاضوا تجارب العمل التشريعي من خلال عملهم في لجان المجلس، ونأمل أن تكون مؤشرات الانتخابات الأخيرة بداية فعلية لنضوج الفكر السياسي، وأن تكون الإرادة الشعبية هي المحرك الرئيسي في تشكيل وصنع القرار البرلماني.

* مدير إدارة السياسات الإسكانية والتخطيط الاستراتيجي

وباحثة في شؤون السياسات العامة

***

محمد