عربي بوست


لُقب بـ"محامي الرعب " و بـ"محامي الشيطان"، بسبب مرافعته في قضايا شخصيات مشهورة مُتهمة بالقتل والإرهاب، البعض منها بريء والبعض الآخر مذنب، ولكنه، في نفس الوقت، مناضل في قضايا عادلة.. إنّه المحامي الفرنسي المثير للجدل، جاك فيرجيس.

جاك فيرجيس.. إثارة الجدل بدأت فور ميلاده

وحتى دون أن يكون له دخل في ذلك، فإنّ إثارة الجدل في شخصية جاك فيرجيس، بدأت فور رؤيته النور لأول مرة، فالرجل مولود رسمياً يوم 5 مارس/آذار 1925 بمدينة "أوبون" بتايلاند، ولكن بعض المؤرخين على غرار برنارد فيوليت، يشيرون إلى أنّ المحامي الشهير قد وُلد، في الحقيقة، قبل سنة واحدة من ذلك التاريخ، وبالضبط في 20 من أبريل/نيسان 1924 بجمهورية لاوس التي كانت حينها مستعمرة فرنسية.


وبحسب رواية أولئك المؤرخين، فإنّ القنصل الفرنسي، ريمون فيرجيس، كان على علاقة غير شرعية بالأستاذة الفيتنامية، فام تي كهانغ، لما أنجبت جاك، قبل أن يتزوجها رسمياً، فيما بعد، وتنجب الولد الثاني، بول، فقام حينها الوالد بتسجيل الطفلين الاثنين، في الحالة المدنية، على أنهما توأم.

لم يعش جاك فيرجيس كثيراً رفقة والدته، حيث توفيت في سنة 1928، فتربى، رفقة شقيقه بول، لدى عمته بجزيرة لارينيون، بالمحيط الهندي، حيث إنّ عائلة فيرجيس كانت قد استوطنت هذه المستعمرة الفرنسية منذ القرن الـ17.

وعاد ريمون فيرجيس للعيش في مسقط رأسه بلارينيون سنة 1932، فتكفل بتنشئة طفليه اللذين ظهر لديهما الاهتمام بالسياسة في سن مبكرة، بحيث شاركا، عندما كانا يبلغان من العمر 12 عاماً، في تجمع كبير للجبهة الشعبية، بمدينة "بور" التي كانت تضم تحالف أحزاب اليسار الفرنسي.

وبعدما نال شهادة الباكالوريا في سن الـ16، درس جاك فيرجيس سنة واحدة فقط بكلية الحقوق بلارينيون، قبل الرحيل، في يناير/كانون الثاني 1943 إلى العاصمة البريطانية لندن، عبر جزيرة مدغشقر، للانضمام إلى القوات الفرنسية الحرة التي كانت تحارب ألمانيا النازية، فشارك في العديد من المعارك بإيطاليا وفرنسا والجزائر والمغرب، برتبة ضابط صف.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في سنة 1945، انضم جاك فيرجيس للحزب الشيوعي الفرنسي، وواصل دراسته للحقوق بالعاصمة باريس، وترأس جمعية الطلبة لجزيرة لارينيون، فصادق بعض الطلبة الذين أصبحوا فيما بعد شخصيات سياسية في بلدانهم المستقلة، كالتونسي محمد مصمودي، وزير الخارجية السابق في عهد الرئيس لحبيب بورقيبة، وبول بوت الذي أصبح زعيم حركة "الخمير الحمر"، ثم الوزير الأول لكامبوديا من 1976 إلى 1979.

وترقى جاك فيرجيس في مختلف المناصب للحزب الشيوعي الفرنسي إلى أن كسب عضوية لجنته التنفيذية من 1951 إلى 1954، ثم أصبح الأمين العام للاتحاد الدولي للطلبة، ما سمح له بالسفر إلى العديد من الدول والاحتكاك عن قرب ببعض الرجال المهمين على غرار إريش هونيكر، الذي أصبح فيما بعد رئيس ألمانيا الشرقية، و ألكسندر شيليبين، الذي أصبح رئيس المخابرات السوفييتية KGB بحسب جريدة lemonde الفرنسية.

وبعد إنهائه دراسة الحقوق سنة 1955، انضم لنقابة المحامين بباريس. وبحكم المبادئ التي تلقاها عندما كان مناضلاً في الاتحاد الدولي للطلبة، فإنّه تبنى الفكر المناهض للاستعمار، فليس من الغرابة، إذاً، أن يبدي تعاطفه مع كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، وقد أتيحت له الفرصة لإظهار هذا التعاطف بشكل علني لما انبرى للدفاع عن شابة جزائرية متهمة بقتل عدد كبير من الفرنسيين.

سُمي بـ"المنصور" بعد مرافعته في قضية بوحيرد

ولم تكن تلك الشابة سوى المناضلة الجزائرية الشهيرة جميلة بوحيرد، التي ألقي القبض عليها يوم 9 أبريل/نيسان 1957 بالجزائر العاصمة من طرف فرقة من القوات العسكرية الفرنسية الخاصة، حيث تم تعذيبها بشكل بشع خلال فترة استجوابها، قصد الحصول على معلومات تؤدي إلى تفكيك "جماعة واضعي القنابل" التي كانت هي إحدى عضواتها بزعامة قائد المنطقة المستقلة للجزائر العاصمة، ياسر سعدي.

وقد تخصصت تلك الجماعة في وضع القنابل بالأماكن العامة التي يرتادها الفرنسيين على غرار المقاهي والحانات، ما أدى لسقوط عشرات القتلى والمصابين من العسكريين والمدنيين، وهو الأمر الذي كان كافياً لإدانة جميلة بوحيرد بأخطر التهم، والحكم عليها بالإعدام يوم 15 يوليو/تموز من نفس السنة.

لم يكن بمقدور المحامي جاك فيرجيس تبرئة موكلته خلال المحاكمة التي رافع فيها، ولكنه نجح في لفت الرأي العام المحلي والعالمي إلى بشاعة التعذيب الذي يتعرض له المناضلون الجزائريون عند استنطاقهم من طرف المستعمر الفرنسي.

كما نجح فيما بعد، من خلال قيادته لحملة إعلامية واسعة، في تلقي جميلة بوحيرد لتضامن عالمي كبير أدى برئيس الجمهورية الفرنسية الجنرال ديغول إلى إلغاء حكم الإعدام في سنة 1959، ثم إطلاق سراحها في 1962، في إطار اتفاقيات "إيفيان" بين فرنسا والحكومة الجزائرية المؤقتة.

وقد أكسبت مرافعة جاك فيرجيس لصالح القضية الجزائرية شعبية كبيرة لدى مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني، الذين أطلقوا عليه لقب "المنصور"، وهو اللقب الذي احتفظ به عندما اعتنق الإسلام، ليتزوج بموكلته السابقة جميلة بوحيرد عام 1965 والتي أنجب منها مريم سنة 1967 وإلياس في 1969.

اكتسب الجنسية الجزائرية ثم خالف أفكار بن بلة

وقبل زواج فيرجيس بجميلة، كان قد استقر بالجزائر، عند استقلال البلاد يوم 5 يوليو/تموز 1962، كما اكتسب الجنسية الجزائرية وعمل بوزارة الخارجية، وأسس مجلة "الثورة الإفريقية" الناطقة باللغة الفرنسية، والممولة من طرف حزب جبهة التحرير الوطني، ولكنه أعفي من مهامه من طرف الرئيس الأسبق للجزائر، أحمد بن بلة في مارس/آذار 1963 بسبب لقائه مع زعيم الثورة الشيوعية الصينية ماو تسي تونغ، الذي تتعارض مبادئه مع أفكار بن بلة.

عاد جاك فيرجيس إثر ذلك، للعيش بباريس وأسس مجلة أخرى سماها "الثورة"، التي تبنت أفكار الحركة الماوية، قبل أن يعود مرة أخرى إلى الجزائر بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بأحمد بن بلة في 19 يونيو/حزيران 1965، فعمل محامياً بالجزائر العاصمة حتى 1970.

اختفى عن الأنظار طيلة 8 سنوات مع المناضلين الفلسطينيين؟

ولكن هذا الزواج لم يدم طويلاً، إذ وفجأة، ودون سابق إنذار غاب جاك فيرجيس عن الأنظار طيلة 8 سنوات كاملة، بعدما غادر منزله العائلي بالجزائر يوم 8 يناير/كانون الثاني 1970، متوجهاً إلى باريس، ثم لم يظهر له أي أثر، حتى عام 1978 لما استأنف نشاطه كمحامٍ بالعاصمة الفرنسية بشكلٍ عاديٍ، ودون أن يكشف أين ومع من كان طيلة فترة اختفائه الطويلة.

وكان ذلك الغياب الطويل والمبهم سبباً في طلب جميلة بوحيرد الطلاق بحجة "الإهمال العائلي"، أما فيرجيس فقد كان يكتفي بأجوبة مبهمة عندما يسأله الصحفيون عن مكان اختفائه ك"لقد كنت في الجانب الآخر من المرآة"، أو "لقد كنت في عطلة بمكان بعيد شرق فرنسا".

كما قال أيضاً "كنت رفقة أصدقاء لا يزالون على قيد الحياة، وقد أصبح البعض منهم يشغل مسؤوليات مهمة.. الأحداث التي عشناها معاً معروفة، لكن دورنا فيها هو الذي ليس معروفاً، ليس دوري فقط الذي كان متواضعاً، ولكن دورهم الذي لا يحق لي التحدث عنه".

وقد تباينت الروايات عن مكان تواجد جاك فيرجيس، خلال فترة غيابه الطويل، من أنه كان في كمبوديا رفقة صديقه زعيم "الخمير الحمر"، بول بوت، أو في الصين الشعبية، أو بمنطقة "كاتانغا" بالكونغو بحثاً عن الذهب، أو بالشرق الأوسط رفقة الفلسطيني وديع حداد الذي كان قيادياً بالحركة الشعبية لتحرير فلسطين والذي تنسب إليه العديد من العمليات الفدائية ضد المصالح الإسرائيلية بالعالم، والذي توفي يوم 28 مارس/آذار 1978.

وتبدو الرواية الأخيرة الأقرب إلى التصديق، بعدما أكدها المخرج والمنتج السينمائي السويسري، باربي شرودر، الذي أنتج عام 2007 فيلماً وثائقياً عن جاك فيرجيس بعنوان "محامي الرعب".

وقال شرودر في مقابلة مع قناة "كنال بلوس" التلفزيونية الفرنسية يوم 3 ديسمبر/كانون الأول 2017، وأعادت نشرها، في اليوم الموالي صحيفة ouest france الفرنسية: "نعم يمكنني قول ذلك، لقد كان رفقة وديع حداد، وقد عاد إلى باريس بعد يومين من وفاة وديع حداد، وبحكم أنّ جاك فيرجيس كان لا يزال على قيد الحياة عند إنتاج وعرض الفيلم الوثائقي فإنه لم يكن بمقدوري الإلحاح على ذكر ذلك، فخلال فترة اختفائه كان قد تخلى نهائياً عن دوره كمحامٍ وأصبح مناضلاً بكل معنى الكلمة".

عاد، إذاً، جاك فيرجيس لممارسة مهامه كمحامٍ وواصل إثارة الجدل بدفاعه عن شخصيات شهيرة، اتهمت بالإرهاب كالفينزويلي كارلوس وزميليه السويسري برونو بريغيت والألمانية ماغدالينا كوب، المعروفين بمساندتهم للقضية الفلسطينية، واللبناني جورج إبراهيم عبد الله، المعتقل بفرنسا منذ سنة 1984 بتهمة المشاركة في اغتيال دبلوماسي أمريكي وآخر إسرائيلي.

كما ترافع دفاعاً عن الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، ووزير خارجيته طارق عزيز، وعن الفرنسي النازي كلاوس باربي، الذي كان أحد رؤساء الشرطة السرية النازية (الغيستابو) بمدينة ليون الفرنسية من 1942 إلى 1944، في مفارقة غريبة بحكم أنّ فيرجيس كان مقاوماً ضمن قوات فرنسا الحرة، خلال الحرب العالمية الثانية، ضد ألمانيا النازية.

توفي في غرفة فولتير

وتوفي جاك فيرجيس يوم 15 آب/أغسطس 2013، بباريس، عن عمر 88 سنة بنفس الغرفة التي فارق فيها الحياة، عام 1778، الكاتب والفيلسوف الفرنسي المعروف، فولتير، حيث كان المحامي يقضي أيامه الأخيرة بمنزل صديقته ماري كرستين دو سولاج.

وتم تشييع جنازة جاك فيرجيس يوم 20 من نفس الشهر، بكنيسة سانت توماس وسط العاصمة باريس، ما يؤكد ارتداده عن الإسلام وعودته إلى المسيحية.

ودُفن بمقبرة "مونبارناس"، بحضور شخصيات سياسية وثقافية فرنسية من كل الإيديولوجيات، وبحضور أيضاً ابنيه الجزائريين مريم وإلياس، وفي غياب زوجته السابقة جميلة بوحيرد.