يَجدُ عشاق السفر بالجزائر في فصلي الخريف والشتاء الفرصة لشد الرحال نحو مدينة بوسعادة أو مكان "السعادة" كما تُلقب، بحثاً عن لحظات من الراحة والاسترخاء وتَذوّق الحياة في أقرب واحة صحراوية إلى الساحل الجزائري.

بوسعادة التي تبعد 242 كلم عن العاصمة الجزائرية، والتي تتميز بجو حار صيفاً ومعتدل ودافئ شتاءً، هي مدينة ضوئية مؤنسة، تحضُنك سريعاً. سكانها "بدويون متحضرون"، فقد "أخذوا أجمل ما في البدوي من كرم وشهامة، وأجمل ما في أهل المدن من ليونة ورقي وتفتح على الآخر"، كما يقول الصحافي الجزائري نجم الدين سيدي عثمان في إحدى كتاباته.



ليضيف: "مع تاريخ زاخر يمتد إلى 7 قرون، وهو تاريخ وضع أول نواة في المدينة (مسجد النخلة)، فإن النتيجة مدينة فريدة من نوعها في الجزائر لا تشبه إلا نفسها، تقاوم لتحافظ على روح متفردة رغم وحشية "البيطون" (الإسمنت) الذي يتمدد وبدأ بخنق المدينة وبتضييق مساحة متحفها المفتوح على الهواء الطلق".

واشتهرت بوسعادة منذ القدم بفنون العمارة الإسلامية والطراز الهندسي الفاخر الذي تميزت به كما هو حال مسجد النخلة أو المسجد العتيق الذي بناه الشيخ سيدي ثامر. وقد استعمل البناؤون في عمارتهم مواد طبيعية كالنخيل والعرعار حتى يصمد أمام مختلف أخطار وعوامل الزمن والطبيعة.

وكان لجامع "النخلة" دور كبير في نشر القرآن الكريم وعلومه بين سكان بوسعادة والمناطق المجاورة لها. كما كان له دور تاريخي أيضاً خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 – 1962)، وصُنف "مسجداً وطنياً وتاريخياً" عام 1993، وفي العام ذاته صُنف "معلماً أثرياً من الآثار العربية والإسلامية" من قبل منظمة اليونسكو.

قبلة التجار

لا تزال مدينة بوسعادة تحافظ على خصوصيتها كقبلة للتجار فشكلت مركزاً لمختلف المنتجات وتسويقها مثل الحلي والمجوهرات الفضية والسجاد والصناعات التقليدية كالخناجر التي حملت اسم المدينة ، أو ما يُعرف بـ"الموس البوسعادي"، وكلها صناعات تتوارث أباً عن جد وساعدت سكان الواحة على العيش والتأقلم مع ظروف البيئة.

كما أن المتأملين في الطبيعة لا يفوتون لحظاتهم للتمتع بجمال منظر الواد المسمى واد بوسعادة، خصوصاً أن هذه المدينة تربط مع مدن أخرى، فهي على بعد 70 كلم من المسيلة عاصمة الولاية جنوباً إذ تتبع بوسعادة من الناحية الإدارية لولاية المسيلة منذ عام 1974 وهي أكبر دوائرها، كما أنها قريبة على بعد 175 كلم عن محافظة بسكرة و130 كلم عن برج بوعريرج، و120 كلم على ولاية الجلفة.

كما تحاكي مدينة بوسعادة سنوات من نضال وكفاح سكانها ضد الاستعمار، فبعد استقلال الجزائر عام 1962، كانت ولمدة شهرين ونصف عاصمة الدولة الجزائرية بحكومتها وقيادة، وهي التي ساهمت في ثورة التحرير ضد المستعمر الفرنسي (1830-1962)، بمعارك أهمها معركة جبل بوكحيل ومعركة جبل ثامر، وقتل على أرضها قائدان بارزان هما العقيد عميروش وسي الحواس الملقب بـ"حامي الصحراء".

ملهمة المستشرقين

لقد استطاعت مدينة بوسعادة تغيير حياة كثير ممن نزلوا بها، ومنهم حياة المستشرق الفرنسي إيتان دينيه، الذي خالف مسار عائلته واختار الرسم بدل الاختصاص في مجال القانون، فكان لمدينة بوسعادة نصيب من فنه بـ139 لوحة صوّر فيها طبيعة المدينة ومنازلها وأزقة أحيائها وحياة سكانها، وقد نال جوائز عن بعض منها... بل أصبح واحدا من "البوسعاديين" يأكل طعامهم ويلبس لباسهم، كما تشير إليه المراجع التاريخية.

دينية ولد في باريس سنة 1861 وهو من عائلة أرستقراطية درست القانون، والده كان قاضياً ووالدته ابنة محام، وأرادا له أن يسلك المسار نفسه لكن حياته تغيرت تماماً بعد زيارته الجزائر سنة 1884، حيث زار مدنا بالصحراء الجزائرية منها الأغواط وبسكرة وبوسعادة التي وجد نفسه عاشقاً لها ومشتاقاً لها فعاد إليها بعد أقل من سنة، أي سنة 1885 ليقرر فيما بعد الاستقرار فيها واشترى منزلاً في الحي العربي.

ألهمت بوسعادة العديد من الرسامين المستشرقين الذين قرروا الاستقرار فيها ألهمت بوسعادة العديد من الرسامين المستشرقين الذين قرروا الاستقرار فيها