كثيرا ما نسمع عن بقايا حضارات قد اندثرت ولميبق منها إلا الرمم، فيكتشف المنقبون عن الآثار بعضاً من بقاياها، أو يرصد محللو كتب التاريخ بعض السطور والجمل التي تدل على وجود حضارة ما، في زمن ما قد لحدت تحت ثرى النسيان، وهنا نطرح إشكالية حضارية، هي: لماذا تصمد حضارات بعلومها ومعالمها فتنهل منها البشرية جيلا بعد جيل. في حين تردم بعضها بالنسيان فلا ينهل أحد من علومها وإنجازاتها.

في تقديري أن أحد الأسباب المهمة لصمود الحضارة وبقائها وتوريثها للأجيال أو اندثارها وضياعها، هي قدرة أبنائها على توثيق وحفظ إنجازاتهم، فالأمة التي توثق إنجازات رجالها ونسائها في شتى المجالات سواء في مجال الأدب والفكر والثقافة والحكمة، وعلوم الإدارة، أو في مجال العلوم كالطب وعلوم والصيدلة والفلك والرياضيات والتكنولوجيات أو في مجال الصناعات هي أمة تورث حضاراتها للأجيال وتظل خالدة ما بقي الزمان، وحفظ الحضارات لا يقتصر على توثيق الإنجازات فقط، بل بحفظ سير من أنجزوا وأبدعوا، فجميع الأجيال تعرف رجالات لهم إنجازات انتفعت منها البشرية، فمن منا لا يعرف الفارابي وابن سينا، وجراهامبل، وكارير، والمتنبي، وأحمد شوقي، ولك أن تكمل قائمة العلماء والمنجزين الذين أضافوا للبشرية، في حين أن هناك إنجازات وعلوماً لا يعرف أصحابها فضاع حقهم في حسن الذكر، وضاع حق أمتهم في التأريخ.

ويبقى السؤال الحرج لماذا تغيب الأمم إنجازات رجالها ونسائها ؟ الواقع أن هناك أسباباً عدة، نذكر منها: عدم إدراك أهمية توثيق الإنجازات، أو انشغال الناس عن التوثيق أو تكاسلهم أو تراخيهم وإهمالهم، أو المنافسة غير الشريفة، والحسد والغيرة فكل منهم يغار من ظهور وبروز الآخر، فكل طرف يطمس إنجازات الطرف الآخر، وقد يتراجع المبدع عن

إبداعاته خوفا من عداوات الآخرين، فتضيع أسماء المبدعين وتضيع إبداعاتهم.

وطرائق التوثيق مختلفة فهي لا تقتصر على الكتابة في الكتب أو في المواقع الإلكترونية، فمنها ما ينحت على الصروح المشيدة كالقصور والحصون والأسوار فيخط عليها أسماء بُناتها، والبعض يقيم المنافسات والمسابقات فتحمل أسماء المبدعين في مجال المنافسة مثل جائزة نوبل للسلام، والبعض يخصص مقعدا دراسيا أو قاعات للدراسة أو مختبرات، في أحد المؤسسات العلمية، أو قاعات دراسية تسمى بأسماء من أضافوا للعلوم.

من هنا تأتي أولويات توثيق إنجازات المبدعين من رجالنا ونسائنا أو بتعبير آخر تأريخ تلك الإنجازات، ونحن في معرض هذا النقاش، وفي الوقت الذي نستذكر فيه مسيرة حياة معالي الشيخ الدكتور خالد بن خليفة آل خليفة، بمناسبة مرور عام على وفاته، وهو ذلك الأستاذ الجامعي الذي ورث علما في مجال تحليل التاريخ وأودعه لدى عقول طلبته أمانة ليتناقلوها جيلا بعد جيل، فإننا نتمنى أن يخصص مقعد دراسي باسمه في الجامعة التي قضى سنوات طويلة يدرس طلابها وهي جامعة البحرين، ليظل طلبة العلم ذاكرين لإنجازاته وجهوده، ودعونا نشهد أن البحرين تتميز بقدرتها على صناعة الرجال وهي مازالت ولادة للمنجزين والمبدعين... ودمت يا وطن الخير والعطاء.

نجوى عبداللطيف جناحي