من أكثر ما تتفاخر به الأمم هو كَمُ المفكرين والمثقفين في مجتمعاتها، فهم الذين تقع عليهم مسؤولية التأمل في القضايا والمعضلات المتنوعة التي تمس تلك المجتمعات، ومحاولة توليد حلولٍ لهذه المعضلات في كافة مناحي الحياة، بأسلوب علمي ومنطق سليم. كتربويين وعلماء نفس، فإن من أبرز ما يشغلنا هو كيفية تكرار ظاهرة ما وتعميمها. على سبيل المثال، كيف وصل ابن سينا إلى قائمة أهم العلماء عبر التاريخ، وكيف يمكننا تهيئة الظروف لظهور إبن سيناً آخر، إن جاز التعبير. في هذا المقال الذي من شقين، أجد نفسي في قمة التواضع والحياء عند الحديث عن قامة علمية أعتبرها أحد أهم الشخصيات في مجال الفكر والثقافة في تاريخ البحرين المعاصر، ألا وهو الدكتور محمد جابر الأنصاري - أمده الله بالصحة والعافية، محاولاً فهم كيفية صناعة المفكرين كالدكتور محمد جابر الأنصاري في مجتمعنا البحريني الذي كان ولايزال يفخر برأس المال البشري الوفير الذي يمتلكه.
يتناول الشق الأول من هذا المقال دور التربية في صُنع شخصية الدكتور محمد جابر الأنصاري، أما الشق الآخر من المقال فيتناول دور التعددية الفكرية في صنع المفكرين. وقد عمدت إلى استقصاء معلومات هذين المقالين من الصفحة الشخصية للدكتور محمد جابر الأنصاري في منصة YouTube إضافةً لكتابات «وما كُتب» عن الدكتور الأنصاري، ولعل أهمها كتاب «الكلمة من أجل الإنسان».
بدايةُ قصةِ هذا المقال: في يوم من الأيام، ذهبت لحضور «اليوم المفتوح» لابني وابنتي اللذين هما في نفس العمر والصف -كحال بقية أولياء الأمور- وذلك للاستماع للمعلمة الفاضلة التي كانت تُدرسهم آنذاك. وقد كانت المعلمة الفاضلة شديدة التفصيل خاصة في الحديث عن تميز ابنتي الشديد، ومقارنتها بأخيها في مادة اللغة، فهو أقل مستوىً منها في هذا المقرر بالتحديد.
بعد الاستماع لها بعناية، وجهت لها السؤال التالي: هل ترين ابني سعيداً في الفصل؟ لقد كان مثل هذا السؤال بالنسبة للمعلمة خارج السياق، وبعد تردد بسيط أجابت «نعم إنه حيوي ومرح في الفصل»، فقلت هذا ما يهمني. ثم هممت بسؤالها: هل تعلمين متى بدأ الدكتور محمد جابر الأنصاري دراسته النظامية، وللأسف فلم تكن المعلمة تعرف الاسم الذي يعرفه المفكرون والأدباء في كافة الوطن العربي، ومن هنا تأتي قصة هذا المقال.
لم أقم بإحصاء عدد الحالات التي مرت عليَّ من أولياء أمور يشتكون من تدني المستوى الدراسي لأبنائهم، وأنهم قلقون على مستقبلهم. هذا حقٌ مشروع، فالجميع يود أن يكون ابنه أو ابنته من المتميزين دراسياً وأن يتمنى لهم الأفضل. لقد كانت ولاتزال أحد إجاباتي هي: صدقني، سيكون ابنك بخير، فقط أوجد الشغف الذي بداخله، وعندما تجده، سيجد هو نفسه.
من المثير للاهتمام أن الدكتور محمد جابر الأنصاري بدأ تعليمه النظامي في عمر الحادية عشرة «الصف السادس حالياً»، إلا أن ذلك لم يكن عائقاً أمام هذه الشخصية الفذة أن تتخرج من الثانوية العامة بمعدل ٩١٪ وأن يكون الأول على مدرسة المنامة الثانوية. نظرياً، لقد كان هنالك فاقد تعليمي مقداره خمس سنوات أكاديمية، ولكن عملياً، لم يكن هنالك أي فاقد تعليمي، بل قد تفوق الدكتور الأنصاري على من بدؤوا دراستهم النظامية من الصف الأول! إذاً، فما السر في ذلك؟ قبل الإجابة على هذا السؤال فمن الجيد معرفة ما الذي توفره البيئة المدرسية للطلبة.
التركيز الأكبر في أغلب الأنظمة التعليمية هو تقديم أحدث المعارف والحقائق في المقررات الأساسية والفرعية «المنهاج الدراسي» للتأكد من أن الطالب قد اكتسب هذه المعارف في كل فئة عمرية.
بالطبع، هنالك أمورٌ أخرى توفرها المدرسة للمتعلمين كالخدمات الإرشادية التي تتعلق بالصحة النفسية للطالب، والمرافق التعليمية المعززة كالصالات، والملاعب، والمختبرات، والمكتبة.
إذا كان تركيزنا على المعارف، فلقد تمكن الدكتور محمد جابر الأنصاري من تغطية هذه الفجوة من خلال شغفه بالقراءة، حتى أن معلميه كانوا يذكرون أنه استعار كتباً تفوق مستواه العمري كديوان المتنبي وكتاب ملوك العرب.
السر: عليك أولاً معرفة مجال الشغف «ما المجال الذي يحبه ابنك/ابنتك»، وبعد ذلك، لا داعي لتأخذه للمكتبة، فهو من سيطلب ذلك! كمربٍ وولي أمر، فسوف أكون صريحاً مع نفسي ومع القارئ أن أكثر العناصر تعقيداً في هذه المعادلة هي التعرف على مجال تميز ابنك/ابنتك، ولكن هنالك بعض النصائح التي قد تفيد صاحب المقال والقارئ.
هنالك فروق فردية داخل الشخص نفسه، انظر لدرجات ابنك/ابنتك، هل هنالك مقرر «أو أكثر» يتميز فيه بشكل واضح؟ الاستراتيجية الثانية: قم بسؤال ابنك/ابنتك لو كنت سأشتري لك كتاباً، ماذا سيكون عنوانه؟ الاستراتيجية الثالثة: قم بتنويع خبرات أبنائك.
لدينا متحف جميل فيه الكثير من المعلومات والتاريخ حول هذه المملكة الجميلة، كما أن لدينا مسرحاً وصالةً فنيةً تعرض مجموعة واسعة من الفقرات ذات الطابع الفني.
إضافة لذلك، فإن لدينا أندية توفر العديد من أنواع الرياضات للطلبة، ومكتبات داخل وخارج البيئة المدرسية تعجُ بالكتب التي تنتظر من يتصفحها. نصيحة: لا تبحث عمَّا تود أن يكون ابنك عليه، بل ما يود هُو أن يكون.
لم يطلب والدا الدكتور محمد جابر الأنصاري منه أن يكون أديباً ومفكراً، لقد اختار هو طريقه. على الرغم من تخرج الدكتور الأنصاري من المسار «الأدبي – العلمي» فقد اختار المجال الأدبي، لأنه أحب التنزه في واحة المتنبي وأمين الريحاني وعباس محمود العقاد أكثر من حبه للتنزه في واحة آينشتاين ونيوتن وستيف هوكنج.
ذلك الحب للفكر والأدب أنتج عشرات الكتب والمقالات في مجالات الأدب والسياسة والفكر والثقافة، حتى الشعر والنثر والنصوص المسرحية والقصص القصيرة، وبفضل ذلك الحب حصل على العديد من الأوسمة والجوائز محلياً وعربياً، ولو قُدر لكتابات الدكتور محمد جابر الأنصاري أن تترجم للغات أُخرى، لعُرف بتميز فكره عالمياً.
وقد يكفي الدكتور محمد جابر الأنصاري حصوله على ثقة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، عندما قام بتعيينه مستشاراً علمياً وثقافياً في العام ١٩٨٩ عندما كان جلالته ولياً للعهد، وتجديد ذلك التعيين في العام ١٩٩٩ عندما تولى جلالته مسؤولية الحكم في البلاد.
الخلاصة: لكي تتكرر لدينا ظاهرة كظاهرة الدكتور محمد جابر الأنصاري في شتى العلوم والمجالات، لنكن دقيقي الملاحظة في جوانب قوة أبنائنا وبناتنا واهتماماتهم وميولهم (وليس ميولنا)، وعند معرفة ذلك، سيجدون هم واحتهم الخاصة بهم، تماماً كما حدث مع شخصية هذا المقال، الدكتور محمد جابر الأنصاري. وللحديث بقية.
* جامعة الخليج العربي