تناول الشق الأول من المقال الذي يهدف إلى تسليط الضوء على بعض جوانب النبوغ لدى الدكتور محمد جابر الأنصاري، الدور التربوي في صناعة شخصيته، محاولةً من كاتب المقال لفهم كيفية صناعة الفكر، وبالتالي إلهام الأجيال القادمة من المفكرين. أما الشق الثاني فيتناول دور التعددية الفكرية والانفتاح على الخبرة في صناعة المفكرين. هنالك مقطع ملهم في منصة الـYouTube بعنوان "لماذا تركت الدراسة الجامعية" والتي يروي فيها ستيف جوبز بنفسه كيف أن انسحابه من الدراسة في جامعة ستانفورد أتاح له فرصة دراسة مقررات أخرى كانت أكثر متعة من مقررات جامعة ستانفورد، وبالتحديد مقرر فن الخط Calligraphy الذي اعتبره أحد أهم عناصر تفوق نظام Macintosh على نظام ال IBM، كونه أضاف عنصر الجمال كمعادلة جديدة في صناعة الحواسيب الشخصية. لقد ذكر الدكتور محمد جابر الأنصاري أن دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت لمدة ١٢ عشر عاماً كان لها الدور الكبير في نضجه الفكري والثقافي، حيث كانت جميع التيارات تتفاعل فيما بينها كالقوميين، والماركسيين، والليبراليين، إلا أن ذلك لم يؤثر على فكر الدكتور المعتدل، فهو الذي كان مدرساً لمادتي اللغة العربية والدين في مدرسة المنامة الثانوية، ومن ثم أستاذاً لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر في جامعة الخليج العربي التي شغل فيها منصب عميد كلية الدراسات العليا. الجانب الآخر الذي يُبرز دور التعددية الفكرية، فهو ما ذكره الدكتور محمد جابر الأنصاري أن الجامعة الأمريكية في بيروت كانت توفر المقررات الحرة elective courses والتي اختار فيها دراسة مقررات أسهمت في صناعة فكره النير، كالعلوم السياسية والأدب، والفلسفة، وعلم الاجتماع، ما أدى إلى توسعة مداركه ومعارفه في مجال الفكر والثقافة.
أما دور الانفتاح على الخبرة لدى الدكتور محمد جابر الأنصاري فكان من خلال تنقله بين عواصم بيروت ولندن وباريس، وقضاءه رُبع قرن خارج مملكة البحرين. تتفق أغلب الدراسات العلمية في مجال الشخصية المبدعة أن عنصر الانفتاح على الخبرة هو الأكثر ارتباطاً بالإبداع. لقد ذكر الدكتور محمد جابر الأنصاري أن أكثر عاصمتين تأثر بهما وساهمتا في تكوين فكره هما بيروت وباريس التي وصف الأخيرة منها بمدينة الثقافة والفن والفلسفة والأدب، والتي حصل فيها على شهادة في اللغة والحضارة الفرنسية من جامعة السوربون.
لكن ما الذي يعنيه ما سبق من الناحية التربوية؟ يذكر العالم جوزيف رنزولي أن أول مرحلة من مراحل برامج الطلبة الموهوبين هو "نثر الخبرات" حيث يُفترض أن يقوم النظام التعليمي بتوفير الفرص المتعددة للطلبة لاكتشاف أنفسهم ومجالات تميزهم، ولذا لا نستغرب الدور الذي توليه وزارة التربية والتعليم منذ إنشائها وإلى اللحظة الحالية إلى توفير "الرحلات المدرسية" التي تتيح للطلبة زيارة المتاحف والمصانع والمكتبات، إلى غيرها من المؤسسات التي قد تكون زيارةٌ واحدة منها كفيلةً في تحديد الطالب لمساره الوظيفي وهو على مقاعد الدراسة. كما يجب على أولياء الأمور عدم إغفال دور مؤسسات المجتمع المدني في تشكيل الفكر والثقافة، وإلى أهمية الأنشطة الصيفية التي توفر بعض الخبرات التي قد لا توفرها البيئة المدرسية بسبب أولويات النظام التعليمي.
لقد كان لكل ما سبق ذكره الدور الكبير في صياغة شخصية الدكتور محمد جابر الأنصاري، الناقد، وكاتب الشعر والنثر، والنصوص المسرحية، والأديب، والإداري، فهو الذي على الرغم من عدم ميله للمناصب الإدارية، والذي كان يرى أن الأفكار تولد خارج المكتب الإداري وتولد تحت ضوء الشمس، وأن الجمع بين الفكر والإدارة حالةٌ استثنائية. لقد كان جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، حفظه الله مؤمناً بهذا الفكر حيث أتاح المجال للدكتور محمد جابر الأنصاري للعمل كأستاذٍ للحضارة الإسلامية والفكر المعاصر بجامعة الخليج العربي، بالإضافة لعمله كمستشار علمي وثقافي لجلالته.
الخلاصة: إن ظاهرة الدكتور محمد جابر الأنصاري، المفكر، والأديب، والناقد، والأستاذ الجامعي، هي ظاهرة قابلة للتكرار بشرط توافر عدد من العناصر هي: (أ) التفاعل بين الخبرات المدرسية والمنزلية لتوعية الجيل الجديد من الطلبة بمجالات تميزهم، (ب) أهمية تعزيز دور القراءة خاصة في المجالات المتنوعة، حيث يذكر كل من عالمي النفس سكينر وفرويد أن أحد أسباب إبداعهم هو القراءة في خارج مجال التخصص، (ج) تعريض الطلبة لخبرات متنوعة، و(د) تعزيز دور التعددية الفكرية والانفتاح على الخبرة. بالطبع، لقد كانت هنالك عواملُ أخرى لم يتطرق لها المقال أسهمت في تشكيل شخصية الدكتور محمد جابر الأنصاري، كالدور الأسري، ودور الأقران، وهو الذي كانت تجمعه علاقة وطيدة بالمفكر الفذ الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، والفترة الزمنية التي نشأ فيها الدكتور محمد جابر الأنصاري والتي كانت بمثابة عصر نهضة عربي في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، ولكن لعل فيما ذُكر كفاية لكاتب المقال ولقارئه للاقتداء بهذه الشخصية التي يفتخر بها كل مواطن بحريني.
* جامعة الخليج العربي