أطال الله في عمر جلالة الملك، كي نتعلم منه الحكمة في الحكم ونتعلم منه التمسك بمرجعياتنا الدستورية، مرة تلو الأخرى، كلما ابتعدنا عنها وبحثنا عن مخارج لأزماتنا خارج أطرها، فالتمسك بها مازال محدثاً في مجتمعاتنا، رغم أن الدستور «حكم» في اختلاف الآراء ووجهات النظر فيما بيننا، إلا أن حداثة التجربة كحداثة الإبحار، تحتاج إلى مران وتكرار.

وللعلم أن الحكم ليس نصوصاً دستورية فحسب، بل حكمة وحنكة وذكاء وتدرب وخبرة وتراكم تجارب، تعلم فيها الحكام أباً عن جد متى وكيف يتعاطون مع مشاكل الدولة وأزماتها، أكسبهم الاستماع إلى النصيحة والشورى ملكاتها، ومنها تعلموا كيف يستعينون بالخبرة ويستعينون بصاحب الرأي، جنباً إلى جنب الدساتير الملزمة لهم، لذا ندعو من الله أن يطيل عمر جلالته كي نتعلم منه المزيد.

جلالته وجه أولاً بالعودة للدستور، الذي يأمر بالتوافق بين السلطتين، فيما يتعلق بإجراءات التقشف، لأن جلالته يحترم الدستور الذي نص على أن أية رسوم أو ضرائب أو مساس بالحقوق لابد أن يكون بالقانون ووفقاً للضوابط القانونية التي أقرتها السلطة التشريعية.

أما الحنكة والحكمة التي استعان بها جلالته فهي التي تمثلت في توجيهه بأن تبحث السلطتان معاً عن حلول لسد العجز وزيادة الموارد، وتتوافق فيما بينها لا أن تنفرد أي من السلطتين بإقرار الحلول ثم تلقيها على الناس، أو تلقي عليهم حلولها ببالونات اختبار وتصمت بلا تفسير أو شرح متجاهلة ردود الفعل ولدت حالة من السخط العام.

ثانياً، وجه جلالته السلطتين أن ترتكز حلولهما على ثوابت أولها: تراتيب الأولويات في الأهم فالمهم، والأهم فالمهم ليس في تقليل مكتسبات الموظف العام، وليست في المفاضلة بين من نبدأ، هل نبدأ بالموظف أو الوزير؟ تلك حلول عقيمة لأن ما سيوفر من هذه الإجراءات مبالغ لا تذكر، إنما علينا النظر في بند المشاريع وفي منافذ الصرف، بمعنى أي من المشاريع ممكن تأجيلها فنوفر كلفته وأي منها لا يمكن تأجيله فنبقيه، ذلك أمر يحتاج إلى تحاور ونقاش حول جدولة تلك المشاريع.

وجه جلالته أن يكون آخر الحلول هو جيب المواطن لا أن نبدأ به، آخر الحلول هو المساس بتلك المكتسبات، وجه إلى البحث عن البدائل، فإن عجزت الحكومة فلتستمع إلى الآخرين، الأمر يحتاج إلى ملكة الاستماع وإلى الإصغاء وإلى الصبر وطول البال والتأني في اتخاذ القرار، فليس الأمر كن فيكون.

جلالته وجه كذلك إلى النظر في تنويع مصادر الدخل، أي في البحث خارج حدود الضرائب على المواطنين فحسب كمخرج وحيد، فالرسوم والضرائب إضافة إلى أنها تحتاج إلى موافقة السلطة التشريعية، فهي مساس بحال هو من الأصل يقف على الحافة.

تنويع مصادر الدخل يجب أن تكون له خطة مكتوبة تقدمها الحكومة بلا تأخير للمواطن البحريني، كبرنامج مصاحب للميزانية، إذ وفقاً للمادة 115 «على الحكومة أن تقدم بياناً عن الحالة المالية والاقتصادية للدولة وعن التدابير المتخذة لتنفيذ اعتمادات الميزانية المعمول بها، وما لذلك كله من آثار على مشروع الميزانية الجديدة».

الحكومة لم تخالف الدستور في انفرادها بتلك الإجراءات التي اتخذتها قبل تقديم الميزانية فحسب، بل خالفت الدستور حتى في موعد تقديم الميزانية، فتأخيرها مخالفة دستورية جسيمة عبثنا بها هي الأخرى، إذ كان من المفروض أن تقدم في أكتوبر وها نحن الآن على وشك الدخول في فبراير ولم تقدم بعد!

لسنا في موضع تصيد الأخطاء والمخالفات، نحن نبحث عن حلول بأيدي ممدودة وقلوب مفتوحة، نحتاج إلى إصغائكم وإلى حسن استماعكم، نحتاج أن نتذكر سوياً أهمية وضرورة التمسك بمرجعياتنا كما فعل جلالته، ونحتاج أن نؤكد على خارطة الطريق التي رسمها جلالته لنا، فإن التزمت السلطتان بالترتيب الذي جاء في التوجيهات السامية فسنتمكن من الخروج من عنق الزجاجة إن شاء الله.