قبل عام ويوم واحد بالتمام والكمال، وعلى صفحات جريدة «الوطن»، وتحت عنوان «كي يتحقق حلم الاتحاد الخليجي المنشود»، كتبت عموداً، بمناسبة دعوة «خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز، للتحول من حالة التعاون التنسيقية إلى مرحلة الاتحاد الانصهارية»، تناولت فيه حينها متطلبات تحقيق ذلك الحلم، وأنهيته بفقرة جاء فيها «هذه القائمة المشتركة من العناصر الإيجابية والسلبية ليست مكتملة، لكنها تكشف أمراً في غاية الأهمية وهو أن مسيرة الاتحاد، التي ليس هناك من لا يرغب في قطعها، وليس من حق أحد التقليل من شأنها كدعوة، بقدر ما تحتوي على العناصر الإيجابية، فهي محفوفة بالعوامل السلبية، ومن ثم، فعلى كل من يأخذ على عاتقه تسيير دفة هذا التحول أن يدرس الإيجابية ويعزز من حضورها، ويأخذ في الحسبان السلبية ويناضل من أجل تقليص تأثيراتها. هذه مسؤولية لا تنحصر في القيادات وصناع القرار فحسب، فمن أجل تحقيق حلمنا في هذا الاتحاد المنشود، علينا كمواطنين أن نسلك السلوك ذاته من تلك العناصر بفصيليها الإيجابي والسلبي».
أما اليوم، وبعد التطورات التي عرفتها المنطقة العربية عموماً، والخليجية منها على وجه الخصوص، فلم يعد هناك من مناص أمام من يريد لمجلس التعاون أن يستمر في أداء دوره التوحيدي الإيجابي ويتمتع بالحضور المؤثر الذي يليق به في المحافل الإقليمية والدولية؛ إلا طريق واحد عليه أن يسلكها، وهي تلك التي تقود نحو الارتقاء بأداء المجلس، ليس ككيانات سياسية مبعثرة وإنما ككتلة سياسية متماسكة. ومن هنا فالاجتهاد ينبغي أن ينصب على طبيعة هذا التماسك وآليات عمله التي يفصلها خط أحمر من غير المسموح تجاوزه، وهو العودة إلى حالة التبعثر أو عدم التناسق، سواء في نطاق السياسات الداخلية، أو على مستوى الدبلوماسية الخارجية. ومن الطبيعي ألا يسمح المجال الضيق هنا الخوض في تفاصيل الأشكال السياسية والهياكل الإدارية التي يمكن أن تقود إلى مثل هذا الارتقاء المطلوب في الأداء، لكن من الضرورة بمكان رفع الصوت المنادي بأن الحال التي وصلت إليها مسيرة مجلس التعاون الخليجي، ربما تكون إيجابية، لكنها لم تعد اليوم قادرة على تلبية طموحات المواطن، ولا قادرة، وهذا هو الأهم، على درء الأخطار المحدقة بدوله، والتي باتت اليوم تشكل تهديداً ملموساً يمكن أن يطيح بالكيان الخليجي القائم.
كثيرة تلك الأخطار، لكن يمكن رصد الأهم من بينها، وتصنيفها في فئتين أساسيتين: الأولى خارجية، والثانية داخلية.
فعلى المستوى الخارجي، نبدأ بما هو دولي، حيث باتت واضحة للعيان آثار أصابع التدخلات الدولية في الشؤون الداخلية للدول الأضعف بين دول المجلس، سواء من حيث الإمكانات الاقتصادية، او التركيبة السكانية، أو المساحة الجغرافية، من أجل إثارة القلاقل فيها، واستخدامها ـ تلك القلاقل - في مرحلة لاحقة، كفزاعة لتهديد دول المجلس الأخرى، من أجل ابتزازها لتوقيع اتفاقات اقتصادية مجحفة بحق تلك الدول، أو إرغامها، بشكل مبطن، لبناء، أو تطوير ترسانات عسكرية تستنزف مواردها المالية، وتتغذى من خلالها اقتصادات تلك الدول الأجنبية. وقد نجحت الدول الغربية، خلال هذا العام من توقيع اتفاقات عسكرية مع دول المنطقة فاقت قيمتها مئات المليارات من الدولارات.
أما على المستوى الإقليمي، فهناك دولتان، الأولى هي إسرائيل، بوصف كونها عدواً قومياً، لا تكف عن مساعي إرباك مسيرة الارتقاء بأداء مجلس التعاون الخليجي بشكل مباشر، وفي أحيان كثيرة بغير مباشر، من خلال زج دول المجلس في منازعات داخلية ذات جذور تنافسية، إزاء قضايا ذات علاقات بالصراع العربي – الإسرائيلي، تقود في نهاية الأمر إلى وضع المزيد من العراقيل أمام مساعي الارتقاء بأداء المجلس نحو العمل المشترك. ومن جانب آخر هناك الخطر التنافسي القادم من طهران، التي لا نضعها في مصاف العدو الصهيوني، لكنها تأتي أيضاً ضمن قائمة الدول الإقليمية المنافسة في المنطقة التي تتعارض مصالحها القومية مع بروز نظام إقليمي عربي يملك من القوة المالية والسكانية والجغرافية التي تؤهله للدخول في تنافس ندي معها. المواطن الخليجي قادر على فهم الدوافع الإيرانية، لكنه واجبه القومي يرغمه على رفضها. يدلل على ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، استمرار إيران في سياساتها العدوانية تجاه الجزر الإماراتية، والتدخلات التي لا تكف عنها إيران في الشؤون الداخلية العراقية، كجزء من سياسة بسط النفوذ، وإثبات الحضور، في الساحة الخليجية.
لكن الأخطر مما هو خارجي، ذلك الداخلي، وأخطر قنابله الموقوتة تلك الكتلة السكانية الخارجية القادمة من القارة الآسيوية، والتي لم تعد عامل تهديد ثقافي/ حضاري فحسب، يحمل مقومات التشويه المستقبلي للبنية الاجتماعية الخليجية، بل تحول إلى عامل نزيف مالي حقيقي، يهدد الاقتصاد الخليجي، وينذر برهنه، على المستوى البعيد في أيدي اقتصادات دول أجنبية، ليست الهند سوى إحداها. المصدر الحقيقي الذي يجعل من هذه الكتلة البشرية قنبلة موقوتة، هي تلك الدخول الطفيلية التي تحققها بعض الفئات الخليجية من خلال تجارة «استقدام الأيدي العاملة الأجنبية»، والتي أصبحت اليوم، أي تلك الفئة، طابوراً خامسا من طراز جديد، له ارتباطاته الخارجية التي تمده بالقدرة على الاستمرار والنمو، وتعزيز نفوذه الداخلي الذي يزوده بالحصانة الاجتماعية والحماية القانونية. يولد كل ذلك فئة اجتماعية طفيلية ذات ولاء خارجي ليس في مصلحتها رؤية أي شكل من أشكال الارتقاء بأداء المجلس في اتجاه وحدوي، لأن في ذلك تضارب مباشر مع مصالحها، الذي ينمو في أحشائه جنين مقتلها.
لذا، ومن أجل مواجهة الأخطار الخارجية، واستئصال الطفيليات الداخلية، لا بد من وضع خطة صحيحة جادة قابلة للتنفيذ، ليس على المدى القصير، وإنما في إطار استراتيجي بعيد المدى، يأخذ في الحسبان معالجة معاول الهدم، قبل الاعتماد على مقومات البناء.
هذا يضع على طاولة القادة الخليجيين الذين يلتقون اليوم في المنامة مهمة مستقبلية استراتيجية تقوم على البعدين: الداخلي والخارجي، فعلى المستوى الخارجي لا بد من تبني استراتيجية خليجية قادرة على التعامل الصحيح الذي يميز بوضوح بين الصديق والعدو، وبينهما المنافس أيضاً، كي لا تختلط الأوراق بشكل عشوائي ويفقد الجميع بوصلة الطريق الصحيحة.
أما على المستوى الداخلي، فلا بد من العلاجات الصحيحة التي بوسعها، أن تحصن الجسد الخليجي من طفيليات اجتماعية كثيرة، ليست فئة موردي اليد العاملة الأجنبية سوى الأكثر بروزاً من بين صفوفها.
وفي غياب تلك الاستراتيجية الواضحة المعالم، المحددة الأهداف، يتحول مجلس التعاون الخليجي إلى أحد قناديل البحر التي تسيرها الرياح من الأعلى، وأمواج البحر من الأسفل، فتصبح حركة رهن بعوامل خارجية لا تملك تلك القناديل قرار توجيهها، ومن ثم فمصيرها مجهول وأهدافها غامضة. وهذا يتطلب الارتقاء بأداء المجلس قبل أي شيء آخر.