صدمتني مقولة إحدى الأخوات المتقاعدات وهي تردد «التقاعد روعة»، واستجلبت إلى ذهني مواقف الكثير ممن أعرف أنهم تقاعدوا وعندما قررت أن أباشر كتابة هذا المقال عدت إلى أختنا الكريمة وسألتها مع آخرين أعرفهم لماذا «التقاعد روعة»؟! خاصة قبل أن يكون قد حان وقته وعندما يكون الشخص لا زال في قمة عطائه وقدرته على العطاء ليخرج إلى الوقت الفراغ، لم أتوقع السبب ولكني شعرت بحجم المجزرة التي تنفذ في الكفاءات خاصة في القطاع العام، وسأورد لكم ما قالته سيدتان بكلماتهما دون تدخل، كعينة وهي ليست للتعميم ولكنها تستحق التفكير. السيدة «ص. ت» تقول «أنا طلعت للتقاعد المبكر لأنه كانت فيه إشاعات تغيير قانون التقاعد ولا يكون في صالح الموظف، قررت أطلع مع أني صليت استخارة وما حسيت براحة، ولكن رغم ذلك قررت أطلع وكلها اختيار رب العالمين صحيح كنت طاقة وكان ضغط العمل يوترني خاصة أني أحب أن أنجز عملي في أسرع وقت لأن طبيعة عملي تستوجب أن أنهي بعض الأعمال في سرعة وإتقان، لكن الأطراف الثانية في الإدارة محبطة ومهملة وتبيني أصير مثلها وقررت أطلع لأن جو العمل ما يساعد أني أعطي على حساب صحتي ونفسيتي من ناحية العمل ومن ناحية المنافسة غير الشريفة وبعد التقاعد شعرت أن وقتي كله لي من غير هم الشغل ومسؤولياته». وتتابع السيدة «لا أسمي التقاعد فراغاً لأن وقتي أصبح ملكي، أنوع فيه، أقرأ حتى في الانستغرام والسناب مع متابعة حسابات مفيدة ومسلية وأزور الأهل والصديقات وألبي طلبات عيال أخواتي وهكذا، كنت طوال 27 سنة خدمة ما أحب أخذ إجازات مرضية، لما كنت أمرض أداوم علشان همي شغلي ما يتأخر ولا سنوية مطولة حدي أسبوعين وفي رمضان، لما تقاعدت حسيت أني في إجازة بس من غير هم الشغل وللحين في إجازة مطولة لا أحاتي صحيان الدوام المبكر ولا زحمة الشوارع في الصبح والظهر ولا أني بمرض ولازم أداوم». تقول السيدة «تصدق في بداية 2016 قلت باغير نمط شغلي، أعطي نفسي راحة في العمل لأني كنت على طول أخلص من عمل أبتدي في ثانٍ من غير راحة، وهدأت نفسياً وفي مايو قررت أتقاعد للأسباب المذكورة وطلعت في 1 يونيو من غير حسرة لأن القانون ما تغير وقلت اختيار من رب العالمين وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم والله أعلم». أما السيدة الثانية «أ.أ» فتقول «تم تعيين إدارية جديدة في القسم المنتسبة إليه، وكانت إمكانياتها جداً ضعيفة.. علماً بأن لدى هذه الإدارية مشاكل كثيرة في إدارات سابقة. بالرغم من أنني أسست تلك الإدارة ودائماً يشاد فيني سراً وعلانية من أعلى مسؤول إلى أصغرهم. كنت قد عينت في الإدارة لأقوم بتأسيسها، وكان مديرها ليس بالمستوى المطلوب ولكن تعامله كان جيداً وإنسانياً.. عملت على تأسيس الإدارة من هيكل وظيفي ومهام وأوصاف......إلخ، لأنها استحدثت، ثم عينت بها فبذلت قصارى جهدي لتفعيلها». وتتابع السيدة «كنت سأتقبل الإدارية الجديدة التي عينت لاحقاً رغم الجهل بالعمل.. ولكن نظراً للأخلاق السيئة.. حيث تملكتها الغيرة مني منذ اليوم الأول حيث كانت تشعر ضمنياً أني المديرة كوني أفهم كل شاردة وواردة بالإدارة.. إضافة إلى تعاملي مع الجميع برقي ومحبة.. التعيين عندما يكون من أجل المصالح والمحسوبيات يحبط الموظفين خاصة الصف الثاني وبالأخص الأكفاء منهم. قررت التقاعد لأنه ليس هناك ما يحفزني على البقاء.. كما تعلم الجو العام في العمل من سيء إلى أسوأ.. فقررت وما أحلاه من قرار.. وتمنيت لو تقاعدت من قبل 5 سنوات». انتهى تعليق السيدتين وقد نقلته لكم بقدر المستطاع بصيغتهما وتعبيرهما، ومن الواضح أن هناك مشكلة كبيرة في خلق قيادات حقيقية داخل القطاع العام، شكوى السيدتين يختزل هذه الأزمة خاصة القيادة في المستوى المتوسط والإشرافي حيث محك وتحدي العمل والإنجاز وتنفيذ استراتيجية الدولة. من أهم أدوار القيادات المتوسطة والإشرافية هو خلق بيئة عمل محفزة وليست منفردة، ودعم الكفاءات وتطويرها وليس تهميشها. ولعل مبادرة «بيبا» التي تملأ لافتاتها الشوارع محاولة في الاتجاه الصحيح بالدعوة لبرنامج تدريب القيادات. لذلك يجب أن يكون هناك برنامج موازٍ يظهر القيادات الحقيقية في القطاع العام وفق معايير جادة وواضحة أكثر. طريق التغيير للأفضل طويل وصعب لكن يجب الاستمرار فيه. * استشاري تطوير أعمال وقدرات بشرية