أن تحب الثقافة فتلك سمة وجدانية ترتبط بالتركيبة المزاجية والاجتماعية التي تميل لها وترغب في الانتماء إليها.وهي رغبة يؤدي تحقيقها إلى الإحساس بالسعادة والاتزان. وأن تكون مثقفاً فتلك مهمة ترتبط بالتركيبة الشخصية لك وبالأسلوب الذي نشأت عليه وبالنمط الاجتماعي الذي تقرر أن تعيشه. وهو نمط متعب يسبب لصاحبه إزعاجاً متواصلاً، في البحث عن المعلومات الحقيقية، أو عن حقيقة المعلومات، والدخول في صدام أوليّ مع الذات الباحثة عن الحقيقة والمصدومة بما قد لا تتمنى كونه حقيقة. ثم الخوض في النقاشات والاختلافات، وقبول أي ردة فعل من الآخرين أو تصنيف أو حتى اتهام وقطيعة، نتيجة تعدد الآراء والمواقف.

أن تقرأ كثيراً، أو أن تكون متابعاً نهماً للبرامج الثقافية، لا يعني، بالضرورة، أنك مثقف. الثقافة ليست كماً متجاوزاً من المعلومات. والدراسات التي اختلفت في وضع تعريف للمثقف أكثر مما يمكن تعداده وبيان مجالات اتفاقها واتجاهات تباينها. القضية أن الثقافة تاريخياً، وبرغم إنجازاتها الباهرة وإنتاجاتها المفيدة للبشرية، كانت ومازالت ساحة للصراعات الفكرية والاختلافات الإيديولوجية. وفي كل عصر ومكان يتحول المثقفون إلى طبقة لا تخلو من النزاهة أو الخيانة، ومن التضحيات أو الانتهازيات. لذلك فإن كثيرين من عامة الناس لا يجدون في تلك المساحة جاذبية، ولا يرون في طبقة المثقفين مكاناً للحياة في سكينة ومتعة.

ومن أجل ذلك فمن غرائبيات عالم الثقافة أن تجد بين الفينة والأخرى من يفرض نفسه «مثقفاً» على الساحة، في الوقت الذي يدرك من يعرفه أن لا حب له في الثقافة وعالمها، ولا سلوكاً ثقافياً يمارسه ولا نمط حياة ثقافي يعيش فيه. وليس مسوغ هذا الطرح تحويل الساحة الثقافية إلى نادٍ خاص وفرض تأشيرات دخول على مرتاديه. ولكن المسوغ هو البحث عن الجاذبية التي قد يراها هؤلاء «الطامحون» في الساحة الثقافية، واستشراف نتائج تفشي ظاهرة «المثقفون الأدعياء»، وأثرها على ثقة محبي الثقافة في المؤسسات الثقافية وفي الخطاب الثقافي العام. ركزوا قليلاً!! ستجدون المكتبات تعج بالمجموعات القصصية والروايات الضعيفة والمهلهلة التي ينشرها أصحابها بكل ثقة، والتي لا يتوانى الناشر عن قبض ثمن طباعتها ونشرها، ومن لا يعجبه المنتج فيرمي به في أول سلة مهملات!! ركزوا أكثر في كثير من الصحف، وبعضها صحف مرموقة، ستجدون أعمدة صحافية لا تستطيع أن تفهم إلى ماذا يرمي كاتبها. ولن تفهموا سبب تخصيص مساحة لهؤلاء الكتاب. وسيزداد اندهاشكم وأنتم ترون بعضاً ممن تعرفونهم، وتعرفون أن لا قضية ثقافية أو اجتماعية أو سياسية تشغلهم في هذه الحياة قد صاروا أصحاب أعمدة صحافية!! ولا يختلف المشهد كثيرا في المحاضرات والندوات. فلم يعد عجبا أن تحضر ندوة وتكتشف أن المتحدثين لا علاقة معرفية أو مهنية تربطهم بالموضوع الذي يتحدثون عنه، وأن المعلقين والمناقشين يستمتعون بمناقشة موضوعات ثقافية لا يفهمون حيثياتها ولا يعرفون منطلقاتها. فما الذي يحدث بالضبط؟!!

من المؤسف أن تستثمر الثقافة في صناعة النجومية الذاتية أو الغيرة، وأن تصير الثقافة، كغيرها، مؤسسة تسير أعمالها بالمحسوبيات والواسطات وإنتاج غير الأكفاء لتصدر المشهد. وأن يصبح الهدف من العمل الثقافي مجرد نشاط سطحي غير جاد، يجني صاحبه من ورائه نشر نشاطه في الصحافة وملء ملف سيرته الذاتية، وربما.. ترقية وظيفية. من المحزن، فعلاً، أن تتحول الساحة الثقافية إلى ما يشبه السوق وأن يحكمها منطق السوق. هذه المشكلة قديمة.. صحيح، وهذا الوضع ليس جديداً. نعم.. ولكن خطورته اليوم تتضاعف مع تراجع الحالة الثقافية الصحيحة والصحية. ومع انحسار القراءة في العالم العربي، ومع انخراط مؤسسات ثقافية مدعومة من جهات خاصة لإعادة تشكيل الثقافة العربية وإعادة توجيه مسارها.

كانت القبائل العربية تفرح بنبوغ شاعر، ومازلنا، الشاعر كان رأس هرم الثقافة وصوتها وإعلامها، وفي القبيلة ألف شاعر، ولا تفرح القبيلة إلا بنبوغ واحد، وهكذا يجب. نحن نبتهج برواية محكمة، وبقصيدة مؤثرة، وبعمل سينمائي مبهر، وبمقال مختلف، وبحضور ندوة صاخبة بالطرح المغاير. ولسنا معجبين بكثافة الإنتاج وكثرة الكتاب وزحمة المتحدثين. لأن الزخم المزيف يجبرنا على الانكفاء في منازلنا، والعودة لقراءة ومشاهدة كلاسيكيات الإنتاج الثقافي العربي البديع.