في عام 1922 ضم الاتحاد السوفيتي -آنذاك - كل من أرمينيا وجورجيا وأذربيجان بالإضافة إلى الأقاليم القوقازية والتي تمتد بين بحر قزوين شرقاً والبحر الأسود غرباً إليه، من أجل توسعه مجاله الأمني والإستراتيجي، وقد عمد الاتحاد السوفيتي منذ ذلك الوقت إلى وضع إستراتيجية الهدف منها التقسيم العشوائي لجمهوريات وأقاليم ومناطق القوقاز بغرض تفتيت الوحدة الجغرافية القوقازية وللقضاء على فرص الثورة أو التمرد من أجل قطع التواصل التاريخي لشعوب هذه المناطق، لما تمثل من موقع إستراتيجي وجيوسياسي وحلقة وصل بين آسيا وأوروبا.

ومع تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 استقلت كل من أرمينيا وجورجيا وأذربيجان بينما بقيت الأقاليم القوقازية تحت مظلة الاتحاد الروسي، والذي أدى إلى تقليص الدور الروسي في هذه المنطقة، وأصبحت العديد من القوى الإقليمية والعالمية تتطلع إلى تحقيق مكانة جيوسياسية لها على هذه المنطقة ومنطقة أوروسيا إجمالاً، وعليه فإن الروس عازمون على إعادة تثبيت موقعهم ابتداء من الجمهوريات المستقلة وخاصة في جورجيا.

وتشكل المنطقة واقعاً اقتصادياً مهما باعتبارها منطقة جوار لبحر قزوين التي هي من المناطق الحيوية بما تمتلكه من الثروات ومن أهمها النفط والغاز فضلاً عن خطوط نقل الطاقة التي تمتد من بحر قزوين عبر دول إقليم القوقاز وجورجيا بشكل خاص وخط نقل الطاقة الممتد من أذربيجان إلى تركيا.

ويرى الروس أن الإقليم يمثل منطقة جغرافية إستراتيجية من أجل ضمان حدودها الجنوبية وأمنها الإستراتيجي كغيرها من الدول الكبيرة التي لها نفس الطموح، والتي طالما شكلت منطقة عازلة ما بين الجزء الشمالي من القوقاز وحلف الناتو، كما أبدوا امتعاضهم من التدخلات الأمريكية من أجل السيطرة على الدول المستقلة وتسعى بكل الوسائل الممكنة إلى التشبث بإطلالتها على البحر الأسود، كما أن أي تدخل من أي دولة يمثل تهديداً خطيراً على الأمن القومي الروسي ولمصالحها الاقتصادية فيها والذي يسيطر على المجال الإستراتيجي والاقتصادي فيها والذي يستطيع أن يتحكم بمقدرات أوروبا، وتكمن الأهمية العسكرية للمنطقة بمثابة الحزام الأمني المحيط بروسيا والتي تتمتع بعلاقات متميزة مع دول الإقليم وذلك من خلال إنشاء قواعد عسكرية مطلة على البحر الأسود مما أدى إلى امتعاض الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لما يمثله من تهديد جغرافي وإستراتيجي واقتصادي.

واحتلت المنطقة مكانة بارزة في الإستراتيجية الأمريكية وأصبحت المحور الجغرافي السياسي الذي تنطلق منه إستراتيجية الاحتواء من جديد لأن نظرية الاحتواء لم تفقد أهميتها بعد انتهاء الحرب الباردة إذ وصلت المواجهة الجيوستراتيجية بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى مستوى جديد من التنافس وخاصة فيما يتعلق بموارد الطاقة وطرق نقلها ومكافحة الإرهاب وإقامة القواعد العسكرية في دول المجال الأوراسي، ومن هنا كثفت الولايات المتحدة وجودها العسكري في المنطقة وبدأت التعاون العسكري مع دول المنطقة المستقلة وأعلنت أن منطقة القوقاز وبحر قزوين منطقة مصالح إستراتيجية حيوية لها، وأخذت تلعب دوراً نشيطاً في الشؤون السياسية والاقتصادية وبذل كل الجهود لاحتواء التنافس الجديد حول المنطقة ومع تشكيل أي تحالف سياسي، كما يرى الأمريكان أن سيطرة الروس على جورجيا سوف يقلص من نفوذهم في تلك المنطقة.

كما أن الأتراك لديهم أطماع تاريخية في الإقليم لما يمثله من عمق إستراتيجي وجغرافي وديمغرافي لهم، وهم يرون من دعوة الأرمن للروس للوجود عسكرياً مرة أخرى على حدودهم خطوة تهدد الأمن القومي التركي، وهم على استعداد إلى التعاون مع الولايات المتحدة من أجل توسيع منطقة نفوذها شمالاً باتجاه منطقة القوقاز، وستقوم الولايات المتحدة بمساعدة تركيا في زيادة قدراتها البحرية والجوية لتمثل تحدياً للروس في البحر الأسود، كما تسعى تركيا لبسط نفوذها الاقتصادي عبر التعاون في مد خط الأنابيب الذي يربط بين أذربيجان وتركيا.

وسوف تشهد السنوات المقبلة مزيداً من التوترات السياسية والعسكرية بين الدول الإقليمية وخاصة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وأوروبا من جهة أخرى بغرض بسط نفوذهم على أقليم القوقاز، لما تمثله المنطقة من أهمية على الصعيد السياسي والاقتصادي والإستراتيجي.