أمل أمين




لم أستطع رفع عيني عن ذيل الحصان في مؤخرة رأس ابن السيدة جارتنا، تذكرته عندما كان طفلاً صغيراً منذ عشرين عاماً، كنت أحب أن ألاعبه وهو في يد والدته في انتظار باص المدرسة وهي سيدة دمثة الخلق يحبها الجميع، لم يكن ذيل الحصان الشيء الوحيد الذي أثار انتباهي بل الوشوم على يديه أيضاً.. كان أمراً غريباً بالنسبة لي فأنا من جيل السبعينات الذي كان فيه الرجل يحلق رأسه تماماً حتى تظهر أذنيه ولا يدخن السجائر في حضرة عائلته أو معلميه؛ بينما كان ابن جارتنا من «الجيل زد» generation z أو الجيل الصامت المولود تقريباً بين أواخر التسعينات ومنتصف العقد الأول من القرن العشرين.. هذا الجيل الذي لم يعاصر الهاتف الأرضي بل وجد الإنترنت وتعامل منذ صغره مع الهاتف المحمول.


وهنا شعرت بوجود فجوة بين الأجيال والقيم التي يحملها كل جيل وهو ما يجعلنا نعيش عصر اغتراب اجتماعي Social alienation حيث أصبح لكل منا مجموعة «شلة افتراضية» لها خصائصها التي تميزها عن الأخرى وكأننا جزر منعزلة!

فهل استطاعت العولمة مع التقدم التكنولوجي السريع جداً والذي واكبه تطور أخلاقي واجتماعي بطيء إن لم يكن تراجع في القيم أن تفتت أهم ما كان يميز المجتمعات العربية وهي الألفة والمودة والتراحم، وهل وصلنا إلى العزلة النفسية وخلق كل شخص عالمه الافتراضي الخاص به؟!

الإجابة بنعم ولا أيضاً! فلا يمكن شيطنة الإنترنت فالتكنولوجيا وسيلة يمكن استخدامها على نحو صالح أو طالح لكن وجود فراغ في حياة الشباب وارتفاع نسب البطالة قد يدفعهم لاستخدامها بنحو سيئ فيلجؤون إلى مواقع التعارف والصداقة لتمضية الوقت وهذا يبعدهم عن جو المنزل؛ فما تقدمه التكنولوجيا هو حياة افتراضية كاملة بلا عيوب تراضي العقل البشري عن طريق الوهم وكل هذه المغريات أدت إلى انزلاق الشباب والمراهقين وحتى البالغين في مغريات ما يعرض وما يسمع وجعلت الوالدين أمام امتحان صعب وكبير في كيفية تربية أبنائهم التربية الصحيحة التي تجنبهم ما تبثه ثقافة «العولمة الاجتماعية» والإشكالات التي أحدثتها في ظل التقدم التكنولوجي.

وهذا يعود بنا إلى فكرة الاغتراب الذي لم يعد محصوراً في ذات الفرد ونفسيته فحسب بل في ذات المجتمع ليتسع مفهومه فيشمل الإطار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فـ«العولمة الاجتماعية» والانفتاح غير المحافظ لقيم المجتمع والأسرة.

إن كل هذا الاضطراب يتطلب وجود نظام يراعي التكيّف المنظم في إطار التغيير الإيجابي بما يضمن ديمومة وعي الأفراد الاجتماعي ويحفّز المجتمعات بصور عامة لمواكبة الحداثة بشكل معقول وإيجابي مع تطورات العصر وما أفرزته ثورة الاتصالات من ثقافة جديدة ومغيرة لدى أغلب المجتمعات، ولا يمكن بناء هذا النظام إلا عن طريق مساندة القيم الأصيلة للشعوب العربية وتعزيزها لدى الأطفال عن طريق زيارة الأجداد، ومساعدة الفقير، والعطف على الضعيف، ويتم ترسيخ هذه القيم بما يشاهده الطفل من تصرفات والديه وأقاربه أو عن طريق التعاليم الدينية التي يمكن غرسها داخله من خلال زيارة بيوت الله. إن الطريق للحفاظ على هوية المجتمعات العربية يمهده الحفاظ على التراث وترسيخ ملامح الماضي من خلال الأنشطة الفنية والدراما وما تقدمه وسائل الإعلام التقليدية والجديدة من أعمال. وهذا لا يمنع بناء هوية جديدة قادرة على التعامل مع المتغيرات والحداثة دون طمس للهوية القديمة ولا يمكن هذا إلا بإيمان كافة طوائف المجتمع بضرورة وجود اختلاف بين الأفراد وأن هذا الاختلاف هو أساس القوة فلا يمكن القضاء على طائفة دون الأخرى بل يجب أن يتعلم الأبناء قبول الاختلاف دون الانصهار فيه.