حنان الخلفان



يقول ابن القيم «في اللسان آفتان عظيمتان، آفة المتكلم، وآفة السكوت، فالساكت عن الحق شيطان أخرس والمتكلم بالباطل شيطان ناطق» الصمت هو تلك المساحة الهادئة التي نلجأ إليها عندما نشعر بأن الكلام قد يفاقم الموقف، أو عندما نعتقد أن الامتناع عن الرد سيحافظ على السلام. ومع ذلك، هل دائماً يكون الصمت خياراً صائباً؟ ماذا لو كان هذا الصمت في غير مكانه؟ هل يمكن أن يتحول إلى عبء ثقيل يدفع الأمور نحو تعقيد أكبر بدلاً من أن يكون مخرجاً؟

تصوّر أنك في موقف تتعرّض فيه للظلم أو ترى آخرين يتعرّضون له، ولكنك تختار الصمت. قد يكون الدافع هو الخوف من المواجهة أو الاعتقاد بأن الأمور ستنتهي من تلقاء نفسها، لكن الصمت في مثل هذه الحالات لا يساهم إلا في استمرار الظلم وتعميق الجروح، الصمت أمام الظلم يعني منح الظالم الفرصة للاستمرار في طغيانه، بينما يظل المظلوم يتألم في صمت وقد يصاب حتى بأمراض جسدية ونفسية، وهنا تحضرنا الآية الكريمة: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا»، «هود: 113»، التي تدعونا صراحة لعدم الركون إلى الظلم أو الانصياع له.

وعلى الجانب الآخر، في العلاقات الزوجية قد يبدو الصمت وسيلة لتجنّب التصعيد في المشكلات اليومية لأن أحد الزوجين قد يعتقد أن السكوت هو الحل الأمثل لتفادي الخلاف، فهناك نساء قد يتعرّضن للضرب أو أزواج يعانون بصمت من وقاحة الكلام القاسي من الطرف الآخر حتى يعتادوا على الأمر ويصبح كروتين في نقاشاتهم الحادة، إلى أن يأتي معتذراً على عصبيته المفرطة التي لم يتمكن من ضبط أقواله أو التحدث باحترام، لكن ما يحدث فعلياً هو تراكم للمشاعر السلبية عندها يتحول الصمت إلى جدار يفصل بين الزوجين، ويغيب الحوار والتواصل، حتى تصبح العلاقة مليئة بالتوتر والقلق وعدم تقبّل أي أمر من الطرف الآخر، وفي نهاية المطاف، قد يؤدي الصمت المتكرر إلى فجوة عاطفية يصعب تجاوزها.

الصمت لا يتعلق فقط بالعلاقات الشخصية أو المواقف الاجتماعية، بل يمتد إلى حياتنا اليومية ورغباتنا واحتياجاتنا الشخصية. كم مرة صمتنا عن مطالبنا خوفاً من أن نبدو أنانيين أو خشية رفض الآخرين؟ هذا الصمت، مع مرور الوقت، يولّد الإحباط والشعور بالإهمال التدريجي، فالتعبير عن الذات ليس رفاهية، بل هو حاجة إنسانية أساسية، فعندما نصمت عن حقوقنا، نفقد جزءاً من هويتنا ونعيش في إطار لا يمثل حقيقتنا وشخصيتنا الأصلية.

وفي أوقات الأزمات، عندما يكون اتخاذ القرارات أمراً ملحاً، يصبح الصمت ثمناً باهظاً، لأن الصمت في هذه اللحظات يحرمنا من التأثير والتغيير، ويتركنا متفرجين في حياتنا بينما تتحرك الأحداث من حولنا بكل سلاسة، لأن الصمت في هذه الأوقات قد يؤدي إلى فقدان الفرص وضياع اللحظات الحاسمة التي قد تصنع الفارق الحقيقي.

لكن ربما أخطر أشكال الصمت هو ذلك الذي ينشأ عن الخوف؛ الخوف من المواجهة، الخوف من الفشل، أو حتى الخوف من الرفض. نتراجع إلى الخلف، نختبئ وراء حائط الصمت، ونعتقد أننا نحمي أنفسنا بهذه الطريقة، لكن الواقع هو أن هذا الصمت يقيّدنا ويعطّل قدرتنا على النمو والمواجهة، فلنكن حقيقيين في هذا، هل من الممكن أن يكون هذا الصمت وراثياً أو عادة ربما اكتسبناها من أحد والدينا أو محيط عائلتنا منذ الصغر، لأنهم دائماً ما كانوا يسكتون عن حقهم عندما يتطلّب الأمر النقاش أو أخذ القرارات.

وبصراحة.. علينا أن نعي أن الصمت ليس دائماً الخيار الأمثل في بعض الأحيان، فهناك أوقات يجب فيها أن نرفع أصواتنا ونتخذ قرارات حتمية أو مصيرية، نستطيع أن نعبّر عن أفكارنا ومشاعرنا بصراحة وجرأة على تصرفات الآخرين وبجاحة حديثهم ووقاحة أفعالهم. فالصمت في اللحظات الحرجة قد يكلفنا الكثير والكثير سواء على المستوى الشخصي أو المهني أو الاجتماعي. علينا أن نميز بين الصمت الحكيم الذي يحافظ على السلام، والصمت الذي يساهم في زيادة المعاناة والألم.