في نهاية كل فصلٍ تشريعي، تبدأ ملامح موسمٍ جديد من الاقتراحات البرلمانية بالظهور، وكأنها عناوين موسمية تتكرّر مع اقتراب الصناديق الانتخابية، اقتراحاتٌ مناطقية تحمل شعارات الخدمات والمطالب الشعبية، بعضها مشروع وضروري، وبعضها أقرب إلى «ورقة انتخابية مسبقة الصنع» تُقدَّم في الوقت الضائع لتذكير الناخب بأنّ ممثله لم ينسَه.
لكن السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يُطرح اليوم: هل هذه المقترحات تعبّر عن وعيٍ تشريعيٍّ ناضج، أم أنّها محاولةٌ جديدة للعب بعقل الناخب وتوجيه صوته عبر ما لا يعني شيئاً؟
منذ المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظَّم حفظه الله ورعاه، وما تبعه من انطلاق الحياة البرلمانية عام 2002، بدأت البحرين رحلةً متواصلة من الوعي السياسي والمشاركة الشعبية، يومها كان المشهد جديداً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهي تجربة متجددة، وناخبين معظمهم يتعرّف للمرة الأولى على صوته وممثله، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، مررنا بستة فصولٍ تشريعية شكّلت مدرسةً في النضج السياسي والاجتماعي، ارتفع فيها منسوب الوعي الانتخابي تدريجياً، وإن تفاوتت ملامحه بين دورةٍ وأخرى.
غير أنّ المرحلة التي نعيشها الآن ومع اقتراب ختام الفصل التشريعي الحالي - تضع هذا الوعي على المحكّ، ومن خلال متابعتنا للفصول السابقة أتوقع أن تعود «ظاهرة الاقتراحات المناطقية» والتي تطرح سؤالاً حول ما إذا كانت بعض الخطابات البرلمانية الشعبوية ما زالت تراهن على ذاكرة ناخبٍ قصيرة، تُقنعه بوعودٍ محلية آنية بدلاً من برامج وطنية شاملة، فهل يمكن لاقتراحٍ بترميم شارعٍ أو تطوير حديقةٍ أن يكون معياراً لتجديد الثقة بنائب غاب عن قضايا الوطن الكبرى؟
إنّ الخطر هنا لا يكمن في الاقتراح ذاته، ولكنه يكمن فيما يحمله من رمزية انتخابية حين يُقدَّم بلا رؤية، أو حين يُستخدم كأداةٍ لقياس شعبيةٍ انتخابية قبل الأوان.
الاقتراح برغبة أداة برلمانية مشروعة ولكنه يصبح عبثياً حين يُقدم بلا دراسة، أو حين يُفرغ من مضمونه الوطني ليصبح وسيلة تذكيرٍ بأن النائب «ما زال موجوداً»، وقد كتبتُ سابقاً في هذا العمود عن هذا النوع من المقترحات التي تُستهلك إعلامياً أكثر مما تُناقش تشريعياً، وعن أثرها في تشويش أولويات العمل النيابي، إذ تحوِّل المجلس من ساحةٍ للرقابة والتشريع إلى دفتر طلباتٍ بلدية.
ومع ذلك، فإنّ من الإنصاف القول إنّ الناخب البحريني لم يعد كما كان قبل عقدين، لقد بات أكثر قدرةً على الفرز والمقارنة، وأكثر وعياً بحدود الصلاحيات وآليات العمل النيابي، وصار يدرك أن الإنجاز الحقيقي لا يُقاس بعدد الاقتراحات والصراخ والخطاب الشعبوي، إنما يقاس بمدى تأثيره في السياسات العامة، وأنّ من يكثر الكلام في نهاية الفصل ليس بالضرورة الأكثر حضوراً في أربع سنواتٍ من الجلسات والمداولات.
اليوم، حين نُحلّل المشهد في ضوء المشروع الإصلاحي الممتدّ منذ 2002، نلحظ أنّ التحدي لم يعد في سَنّ القوانين بقدر ما هو في ترسيخ ثقافة المساءلة، فالمجتمع الذي يُدرك معنى الرقابة والمحاسبة لن تنطلي عليه العناوين اللامعة أو المقترحات الموسمية، لأنّ الوعي لا يُشترى بحديقةٍ ورصف شارع ولا يُستدرج بإنارة شارع.
الوعي الذي نريده هو وعي المواطن الذي يسأل: ماذا قدّم النائب في اللجان؟ كيف صوّت على القوانين؟ ما موقفه من القضايا الوطنية؟ هل كان صوته صوت دائرة أم صوت وطن؟
إنّ نهاية كل فصلٍ تشريعي تعد محطة لتقييم أداء النواب، وفي ذات الوقت اختباراً لوعي الناخبين، فإذا كان بعض النواب يراهن على «اقتراحات لا تعني شيئاً»، فإنّ على الناخب أن يراهن على ذاكرته وعلى نضجه، وأن يجعل من صوته رسالةً وميزاناً لا يُباع ولا يُشترى، وبين اقتراحٍ يُقدَّم ورغبةٍ تُعلَن، يبقى السؤال الأهمّ: هل سنصوّت للذي قدّم خدمات «بلدية» لمنطقته فقط، أم للذي خدم الوطن كله بأدواته «تشريعية»؟ الجواب هناك، في صندوق الاقتراع، حيث لا ينجح نائب إلا بقدر ما يرتفع وعي الناخبين.