في التجارب السياسية الحديثة، لم يعد الأمن مقصوراً على الجيوش والحدود، بل أصبح يشمل قدرة الدولة على إدارة وعي المجتمع، وبناء مؤسسات قادرة على إنتاج ثقافة سياسية ناضجة، لا مجرد إجراءات انتخابية متكررة. في هذا السياق، يبرز معهد البحرين للتنمية السياسية باعتباره أحد أهم الأدوات المؤسسية التي تراهن عليها الدولة لرفع كفاءة الحياة البرلمانية وتحويل الديمقراطية من مجرد آلية اقتراع.. إلى مشروع وعي مستدام.

ففي دول كثيرة، يُختزل العمل النيابي في مقعد يُنتزع وصوت يُجمع، لكن ما يسبق ذلك -وما يليه- هو ما يصنع الفرق. فالمجالس النيابية لا تتطور بالانتخاب وحده، بل بالقدرة على صناعة نائبٍ قادر على التشريع لا مجرد الاقتراحات برغبة، وعلى صياغة السياسات لا استهلاكها. وهنا يتدخل دور المعهد، لا بصفته مركزًا للتدريب، بل كمنظومة لإعادة هندسة العلاقة بين المعرفة والسلطة.

المسار الذي يقوده المعهد يعيد تعريف «المشاركة السياسية» بوصفها شراكة بين نائب واعٍ وناخب مدرك، لا مواجهة بين طرفين يبحث كل منهما عمّا يريده من الآخر. فالتنمية السياسية، كما تقدمها البحرين عبر هذا النموذج المؤسسي، لا تكتفي بتأهيل من يدخل البرلمان، بل تعمل على رفع مستوى النقاش العام، وتحصين الوعي من الشعبوية، وتأسيس حسّ سياسي قائم على الفهم لا التصفيق.

وهنا تتضح المقارنة -ولو بصمت- مع بيئات سياسية أخرى في بعض دول العالم، حيث تنتج الانتخابات نواباً بلا رؤية، وحيث تتحول البرلمانات إلى مسارح صراع بدلاً من كونها منصات تشريع. الفرق ليس في آلية الانتخاب، بل في وجود مؤسسات تشتغل قبل لحظة الاقتراع، وتواصل دورها بعدها. وهذا ما يجعل التجربة البحرينية مختلفة: أنها لم تترك العملية السياسية للهوى الاجتماعي أو للصدفة الانتخابية، بل بنت لها حاضنة فكرية ومهنية تحفظ استقرارها على المدى الطويل.

فالمعهد، في حقيقته، ليس ملحقاً بالبرلمان، بل ملحقاً برؤية الدولة. دوره لا ينتهي بتزويد نائب بمهارة خطاب أو وثيقة قانون، بل يقوم على تأسيس بيئة سياسية أكثر توازناً، تقلص فيها الفجوة بين التشريع والتنفيذ، بين الشعارات والبرامج، وبين النوايا والمعرفة.

حجر الزاوية

أثبت معهد البحرين للتنمية السياسية أن تطوير البرلمان لا يتحقق بالنصوص وحدها، بل ببناء الوعي الذي يصنع نائباً مسؤولاً وناخباً مدركاً. فالديمقراطية ليست صندوق اقتراع فحسب، بل منظومة وعي تسبق الصندوق وتستمر بعده. ومع استمرار برامجه النوعية، تقترب البحرين من برلمان أكثر احترافية، يعكس شراكة بين الدولة والمجتمع لا صراعاً بينهما.

وفي هذا الإطار، تبرز أهمية تمكين الجيل الجديد من المترشحين لعضوية مجلسي النواب والبلدي، بدعوتهم للالتحاق ببرامج المعهد ليكونوا جزءاً من التطوير السياسي، لا مجرد متابعين له. فالتأهيل هنا ليس ترفًا انتخابيًا، بل ضرورة لصناعة المشرّع القادر على تحويل الوعود إلى سياسات، والخطاب إلى تشريع.

وعندما تصبح التنمية السياسية جزءاً من أمن الدولة، تتحول التجربة البحرينية إلى نموذج يصنع الاستقرار بدل أن يستهلكه، ويرسّخ ثقافة تعتبر البرلمان ركيزة بناء لا ساحة أزمة.