تشهد الأسواق المالية الحديثة حركة متسارعة للغاية، حيث تُنفَّذ ملايين الصفقات كل ثانية، مُنتِجةً كميات هائلة من البيانات التي يمكن أن تغيّر فرص الاستثمار خلال دقائق معدودة. واليوم، تجاوزت أنظمة الذكاء الاصطناعي حدود التحليل البسيط للبيانات، لتصبح الأنظمة الأكثر تقدّماً قادرة على العمل كصُنّاع قرار مستقلّين يعالجون تدفّق المعلومات المستمر ويُنفّذون الاستراتيجيات ذاتياً. وتمثل هذه الأنظمة المتقدمة المرحلة الأحدث في هذا التطوّر، إذ تمكّن الآلات من تحليل المشكلات المعقّدة والوصول إلى قرارات عملية، مما يعيد تشكيل طرق اكتشاف الشركات لفرص الاستثمار وإدارة أصول العملاء في بيئة مالية تتسم بتعقيد متزايد.
ولتحقيق هذا التحوّل، تعتمد إدارة الأصول على “وكلاء الذكاء الاصطناعي” - أنظمة متخصصة تعمل كمحترفين رقميين في الاستثمار؛ حيث يتولى أحد الوكلاء تحليل التقارير المالية، بينما يحسب آخر مخاطر السوق، ويراقب ثالث التغيرات التنظيمية. وتتطلّب هذه الوكلاء تنسيقاً فعّالاً فيما بينها لتحقيق أداء متكامل، وهو ما أدّى إلى ظهور أنظمة “الذكاء الاصطناعي الوكيل” (Agentic AI) التي تُنظّم عمل عدة وكلاء وتوجّههم نحو أهداف استثمارية موحّدة. تتولى هذه الأنظمة الإشرافية توزيع المهام على المتخصصين المناسبين، مع التحقق المتبادل من التحليلات لضمان اتساق الاستراتيجيات الاستثمارية. وبذلك، تمكّن الشركات من اتخاذ قرارات معقدة تتطلب خبرات متنوعة في الوقت ذاته - بدءًا من تحليل الوثائق القانونية ووصولًا إلى تفسير الأنماط الإحصائية. والأهم أن هذه الأنظمة قادرة على تدقيق استنتاجاتها عبر آليات تحقّق داخلية يتحدّى فيها الوكلاء نتائج بعضهم البعض، وهي عملية تزداد أهميتها مع ازدياد متطلبات الهيئات الرقابية للشفافية في القرارات الاستثمارية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.
وقد بدأت هذه الأنظمة بالفعل في تحقيق فوائد ملموسة عبر تطبيقات عملية، ومن أبرز الأمثلة تطبيق “بلاك روك” لنظامها Asimov، الذي يعمل باستمرار على فحص مستندات الشركات وتوليد توصيات استثمارية. يعمل النظام على مدار الساعة، فيحلّل التقارير البحثية وبيانات السوق لتزويد مديري المحافظ برؤى قابلة للتنفيذ دون أي تدخل بشري. ويمثل ذلك تحولًا جذريًا من التحليل التفاعلي إلى جمع استخباراتي استباقي، حيث يقوم الوكلاء بمراقبة تدفّق المعلومات والكشف عن فرص استثمارية قد تمرّ دون ملاحظة. ويُظهر تطبيق “بلاك روك” كيف تمكّن أنظمة الذكاء الاصطناعي الوكيل الشركات من الحفاظ على ميزتها التنافسية من خلال المراقبة المستمرة للسوق وتسريع قدرة اتخاذ القرار.
كما بدأت شركات الاستثمار في اختبار أنظمة الذكاء الاصطناعي الوكيل لأغراض الرقابة الشاملة على المخاطر، حيث يقوم وكلاء متخصصون بمراقبة مستويات التعرّض للمخاطر ومتطلبات الامتثال التنظيمي عبر مختلف العمليات. تحلّل هذه الأنظمة الارتباطات بين الأصول، وتتابع حدود التعرّض، وتصدر تنبيهات تلقائية عن أي انتهاكات محتملة قبل وقوعها، مما يمكّن الشركات من تبني نهج استباقي لإدارة المخاطر. وعندما يرتفع مستوى تقلبات السوق أو تظهر تغييرات تنظيمية، يمكن لوكلاء المخاطر تقييم نقاط الضعف فوراً وإخطار مسؤولي المخاطر البشريين بالتهديدات الناشئة. ويساعد هذا الرصد الآلي الشركات على الحفاظ على الامتثال وحماية أصول العملاء من الاضطرابات غير المتوقعة التي قد لا تكشفها المراجعات الدورية التقليدية.
ورغم وضوح القيمة التي تظهرها هذه التطبيقات، فإن التنفيذ الناجح للذكاء الاصطناعي الوكيل يتطلب أطر حوكمة دقيقة تضمن أن تعمل هذه الأنظمة المستقلة ضمن الحدود التنظيمية، مع الإبقاء على الإشراف البشري في القرارات الجوهرية. تنتقل شركات الاستثمار الآن من التجارب المحدودة إلى عمليات نشر واسعة على مستوى المؤسسة، حيث تُدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر وظائف متعددة، مما يخلق كفاءات تراكمية لا يمكن للأتمتة التقليدية تحقيقها. ومع تطوّر الأطر التنظيمية لمواكبة هذه الأنظمة المستقلة، ستكون الشركات التي تتقن الموازنة بين قدرات الذكاء الاصطناعي والحكم البشري في موقع يسمح لها بتحقيق ميزة تنافسية كبيرة في بيئة مالية تعتمد بشكل متزايد على البيانات، حيث يصبح كل من السرعة والدقة عاملين حاسمين في قيادة السوق.