مما لا شك فيه أن المعرفة أصبحت تشكل أحد عناصر الإنتاج وتعتبر مكوناً هاماً للرأس مال المعرفي ومؤثراً على مستوى الثراء المعرفي. وقد ارتبط مسار الحضارة الإنسانية عبر عدة مراحل كانت بدايتها التحول نحو الزراعة ثم الصناعة ثم مرحلة ما بعد الصناعة أو المجتمع المعرفي التقني ونتج عنه اقتصاد مبني على المعرفة. ولعل من أهم سمات هذا التحول المعرفي هو قصر الفترة الزمنية بين الاكتشاف النظري ووضع هذا الاكتشاف موضع التطبيق. مثلاً كانت الفترة الزمنية بين اختراع طاقة البخار واستخدامها حوالي ألفي سنة بينما كانت الفترة الزمنية للاستفادة من الكهرباء والهاتف 50 سنة والألياف الصناعية 9 سنوات، بينما في الوقت الحاضر تستغرق هذه الفترة «دورة حياة المنتج» بضعة أشهر أو أسابيع مما يؤدي إلى تسارع وتيرة الإنتاج والاستهلاك من أجل تلبية رغبات المستهلكين في ظل الاقتصاد الرقمي وعولمة السوق. وهذه السمات لاقتصاد ما بعد العصر الصناعي تتمثل في هيمنة عالم الأشياء على عالم الأفكار وعالم الأشخاص في ظل التواصل الرقمي الواقع الافتراضي وهذا بدوره يشكل موجة اقتصادية حسب تعبير الاقتصادي كونراتيف الذي اعتبر أن الدول تحتاج لحوالي 60 عاماً لاستيعاب التقنيات الجديدة.
ولكن هذه التحولات التقنية تحدث خلخلة لبنية المجتمع والاقتصاد والبيئة وهو ما يسمى بعملية الهدم الخلاق والذي يمثل سمة هامة من سمات عصر ما بعد الصناعة أو مجتمع المعرفة. لقد عبر عن ذلك جوزيف شومبتير في نظرياته حول النمو الاقتصادي والابتكار وديناميكية الرأسمالية عبر تغيير أساليب الإنتاج والنقل والأسواق. ويوافق هذا العصر تنامي فجوة معرفية وتقنية في ظل الاقتصاد الافتراضي وتنامي دور وسائل التواصل الاجتماعي في صياغة وعي الفرد والتأثير في الرأي العام.
وضمن فكرة الهدم الخلاق تزيح الابتكارات الجديدة التقنيات القديمة ذات المستوى الأدنى وينتج عن ذلك مزايا نسبية جديدة لسلع ومنتجات ذات كثافة تكنولوجية ومعرفية. وهذه الفوارق التكنولوجية بين الأمم تحدد التدفقات التجارية وطبيعة التجارة الدولية وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بالفجوة التكنولوجية والتي ترتبط بالمزايا النسبية للدول عبر امتلاك المعرفة والتقنية، وهو ما يؤهلها كي تكون موطناً للابتكار مادامت تحافظ على الميزة النسبية وغياب منافسين وعدم تقليد السلع ضمن عملية التنميط، وهذا يظهر جلياً في تطور صناعة أشباه الموصلات في أمريكا وانتقالها إلى أوروبا واليابان ثم نقل الإنتاج إلى البلاد النامية وتلا ذلك من تطوير لشرائح السليكون وبذلك استعادت أمريكا ميزتها النسبية.
وتمثل الخبرة أثناء نقل التقنية وتوطينها أحد عوامل التقدم التقني والتي تكون نتيجة التوفير بفضل تأثير حجم الإنتاج كما ظهر ذلك بشكل واضح في صناعة الطائرات إبان الحرب العالمية الثانية.
ويبقى التساؤل كيف نفسر الدافع إلى تحقيق الابتكارات ولماذا تكون بعض الدول منتجة للابتكار في حين تبقى دول أخرى مستهلكة للتقنية للإجابة على هذا التساؤل أود التأكيد على الأمور التالية: أولاً: عملية تطوير وتوطين التقنية والابتكار هي عملية استراتيجية وموجهه ضمن خطط التنمية الاقتصادية والتحول الاقتصادي. ثانياً: هناك ارتباط وثيق بين الإنفاق على البحث العلمي ومؤشرات الأداء للبحث والتطوير التي تعتمد على البنى المؤسسية وجاهزيتها للسوق ونظام حاضنات الأعمال والابتكار ورعايتها ضمن الخطة الوطنية لتوطين الابتكار وتجاوز الفجوة التكنولوجية. فمثلاً، بلغ إنفاق أمريكا على البحث العلمي 433 مليار دولار عام 2013 ثم تلتها الصين 318 ملياراً ثم تلتها اليابان 150 ملياراً، وإذا نظرنا إلى نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى الناتج المحلي الإجمالي نجد النسبة في كوريا 4.1% ثم اليابان 3.5%، وهذه النسب أضعاف ما ينفق في العالم العربي، وهذا ينعكس على القدرة على إنتاج براءات الاختراع.
خلاصة القول، إن التحول نحو توطين الابتكار واللحاق في ركب الصناعة وما بعد عصر الصناعة واقتصاد المعرفة تتطلب صياغة مشروع عربي إقليمي للتقنية والابتكار يؤكد على زيادة المحتوى المحلي من الصناعات التقنية والاستراتيجية مثل تحلية المياه، صناعة السيارات والطائرات والبرمجيات والصناعات التحويلية والطاقة المتجددة. إن تجاوز الفجوة التكنولوجية في الوطن العربي يرتكز على تطوير بنية تحتية للصناعة واستراتيجية للأمن الغذائي والاقتصادي تتضمن تحلية المياه، صناعة السيارات والطائرات والبرمجيات والصناعات التحويلية والطاقة المتجددة. إن تجاوز الفجوة الإلكترونية في الوطن العربي يرتكز على تطوير بنية للصناعة واستراتيجية للتجارة الدولية في ضوء المزايا النسبية للوطن العربي، وهذا من الضروري أن يرتبط في منظومة الابتكار الإقليمي وبالقدرة الاستيعابية على نقل وتضمين المعارف ونتائج البحث والتطوير. خلاصة القول، حتى يكون الوطن العربي مؤهلاً للابتكار لا بد أن يكون البحث أو التطوير هو المحرك لدفة المستقبل في عالم متغير ومبني على المعرفة.
رئيس قسم إدارة الابتكار والتقنية – جامعة الخليج العربي
{{ article.visit_count }}
ولكن هذه التحولات التقنية تحدث خلخلة لبنية المجتمع والاقتصاد والبيئة وهو ما يسمى بعملية الهدم الخلاق والذي يمثل سمة هامة من سمات عصر ما بعد الصناعة أو مجتمع المعرفة. لقد عبر عن ذلك جوزيف شومبتير في نظرياته حول النمو الاقتصادي والابتكار وديناميكية الرأسمالية عبر تغيير أساليب الإنتاج والنقل والأسواق. ويوافق هذا العصر تنامي فجوة معرفية وتقنية في ظل الاقتصاد الافتراضي وتنامي دور وسائل التواصل الاجتماعي في صياغة وعي الفرد والتأثير في الرأي العام.
وضمن فكرة الهدم الخلاق تزيح الابتكارات الجديدة التقنيات القديمة ذات المستوى الأدنى وينتج عن ذلك مزايا نسبية جديدة لسلع ومنتجات ذات كثافة تكنولوجية ومعرفية. وهذه الفوارق التكنولوجية بين الأمم تحدد التدفقات التجارية وطبيعة التجارة الدولية وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بالفجوة التكنولوجية والتي ترتبط بالمزايا النسبية للدول عبر امتلاك المعرفة والتقنية، وهو ما يؤهلها كي تكون موطناً للابتكار مادامت تحافظ على الميزة النسبية وغياب منافسين وعدم تقليد السلع ضمن عملية التنميط، وهذا يظهر جلياً في تطور صناعة أشباه الموصلات في أمريكا وانتقالها إلى أوروبا واليابان ثم نقل الإنتاج إلى البلاد النامية وتلا ذلك من تطوير لشرائح السليكون وبذلك استعادت أمريكا ميزتها النسبية.
وتمثل الخبرة أثناء نقل التقنية وتوطينها أحد عوامل التقدم التقني والتي تكون نتيجة التوفير بفضل تأثير حجم الإنتاج كما ظهر ذلك بشكل واضح في صناعة الطائرات إبان الحرب العالمية الثانية.
ويبقى التساؤل كيف نفسر الدافع إلى تحقيق الابتكارات ولماذا تكون بعض الدول منتجة للابتكار في حين تبقى دول أخرى مستهلكة للتقنية للإجابة على هذا التساؤل أود التأكيد على الأمور التالية: أولاً: عملية تطوير وتوطين التقنية والابتكار هي عملية استراتيجية وموجهه ضمن خطط التنمية الاقتصادية والتحول الاقتصادي. ثانياً: هناك ارتباط وثيق بين الإنفاق على البحث العلمي ومؤشرات الأداء للبحث والتطوير التي تعتمد على البنى المؤسسية وجاهزيتها للسوق ونظام حاضنات الأعمال والابتكار ورعايتها ضمن الخطة الوطنية لتوطين الابتكار وتجاوز الفجوة التكنولوجية. فمثلاً، بلغ إنفاق أمريكا على البحث العلمي 433 مليار دولار عام 2013 ثم تلتها الصين 318 ملياراً ثم تلتها اليابان 150 ملياراً، وإذا نظرنا إلى نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى الناتج المحلي الإجمالي نجد النسبة في كوريا 4.1% ثم اليابان 3.5%، وهذه النسب أضعاف ما ينفق في العالم العربي، وهذا ينعكس على القدرة على إنتاج براءات الاختراع.
خلاصة القول، إن التحول نحو توطين الابتكار واللحاق في ركب الصناعة وما بعد عصر الصناعة واقتصاد المعرفة تتطلب صياغة مشروع عربي إقليمي للتقنية والابتكار يؤكد على زيادة المحتوى المحلي من الصناعات التقنية والاستراتيجية مثل تحلية المياه، صناعة السيارات والطائرات والبرمجيات والصناعات التحويلية والطاقة المتجددة. إن تجاوز الفجوة التكنولوجية في الوطن العربي يرتكز على تطوير بنية تحتية للصناعة واستراتيجية للأمن الغذائي والاقتصادي تتضمن تحلية المياه، صناعة السيارات والطائرات والبرمجيات والصناعات التحويلية والطاقة المتجددة. إن تجاوز الفجوة الإلكترونية في الوطن العربي يرتكز على تطوير بنية للصناعة واستراتيجية للتجارة الدولية في ضوء المزايا النسبية للوطن العربي، وهذا من الضروري أن يرتبط في منظومة الابتكار الإقليمي وبالقدرة الاستيعابية على نقل وتضمين المعارف ونتائج البحث والتطوير. خلاصة القول، حتى يكون الوطن العربي مؤهلاً للابتكار لا بد أن يكون البحث أو التطوير هو المحرك لدفة المستقبل في عالم متغير ومبني على المعرفة.
رئيس قسم إدارة الابتكار والتقنية – جامعة الخليج العربي