أعادت قصة انتحار الفتاة البحرينية تسليط الأضواء على قوانين الأحوال الشخصية. وسواء أكان انتحار الفتاة بسبب تداعيات قضية طلاقها أم لا، فإن الالتفات لمعاناة النساء في أروقة المحاكم ومع الأحكام القضائية مسألة يجب دراستها بعيداً عن التشنج، وبعيداً عن الآراء المسبقة والمسلمات الاجتماعية.وتعد قضايا الأحوال الشخصية من أكثر القضايا حساسية في النقاش، وغالباً ما يضرب حولها أسوار ضخمة من أسمنت منعاً لتغييرها أو تجديدها أو حتى مجرد إعادة التفكير فيها. والسبب في ذلك محاولة كثير من القائمين على «حراسة» هذه القوانين التأكيد على أنها أحكام شرعية «مقدسة» غير قابلة للتغيير. وكثير من الناس يصعب عليهم إدراك أن الفقه الذي بين أيدينا هو آراء بشرية استندت إلى إجرائي «القياس» أي مقاربة حكم شرعي بحكم آخر، و«الاجتهاد» وهو إدلاء الفقيه برأيه في مسألة ما بعد الدراسة والبحث. وأن جميع هذه الآراء ارتبطت بمرحلة زمنية معينة، سابقة وقديمة، واعتبرت آراء الفقهاء في حينها «تقدمية» وأحياناً ثورية على ما هو سائد. ودائماً ما يضرب المثل لذلك بفتاوى الإمام الشافعي الذي غير أغلب فتاويه بانتقاله من مجتمع العراق إلى مجتمع مصر اللذين يختلفان تماماً في الطبائع والثقافة والتركيبة الاجتماعية.والفيصل التاريخي الخطير في تاريخ الفقه الإسلامي هو عملية إغلاق باب الاجتهاد عند كثير من المذاهب في سنوات مبكرة من القرون الوسطى أعلبها لم يتجاوز القرن الرابع الهجري. الأمر الذي جعل أحوال الناس وثقافتهم في القرن الرابع الهجري هي الحاكمة على أحوال الناس في القرن الحادي والعشرين الميلادي. وجزء من حساسية نقاش قوانين الأحوال الشخصية في كثير من بلداننا العربية والإسلامية هو ارتباطها بالفوارق المذهبية وخصوصيات الجماعة. ما يجعل هذه القوانين غير موحدة في دولنا وأحوال الناس متعددة كذلك.والغريب أن معظم التشريعات الفقهية التقليدية في مجالات عديدة، اقتصادية وسياسية وأمنية، قد تم تطويرها وربطها بالقوانين المدنية الحديثة. وبقيت الغالبية العظمى من أحكام قوانين الأحوال الشخصية جامدة وعصية على التحديث بما يتلاءم مع مستجدات ظروف حياة البشر وطبائع حياتهم. مع أن القوانين الحديثة تنسجم مع مقاصد الشريعة الكبرى من حفظ النفس والمال والعقل والدين.وكي نوضح سلامة ارتباط الأحكام الأسرية بطبيعة حياة القرن الرابع الهجري، فإن أغلب النساء حينها لم يكنَّ متعلمات تعليماً عالياً، وليس لديهن أدنى استقلال مادي، وكنَّ ينتقلن للعيش مع أزواجهن في مناطق بعيدة عن مناطق أسرهن وقبائلهن. فكانت مؤسسة الزواج بالنسبة إلى المرأة في كثير من فلسفتها وأهميتها تمثل مؤسسة اقتصادية توفر لها السكن والمال والرعاية الاجتماعية والحماية الأمنية نظير خدمتها للزوج وقيامها بتربية أبنائها. أما في وقتنا فأغلب النساء يمتلكن قدراً عالياً من التعليم تمكن من خلاله من إدارة شؤونهن الخاصة، كما إن لديهن استقلالاً مالياً قد يفوق الزوج وباقي رجال العائلة. وقد تطورت مكانة المرأة فصارت معلمة ومديرة بنك أو شركة ووزيرة ورئيسة مجلس نواب، ما يعني أنها صارت برتبة «ولي أمر» للمواطنين وهي المعنية الأولى برعايتهم وتتبع أحوالهم وتوفير احتياجاتهم الكبرى وحمياتهم. وهذا ما يجعل مسألة «وصاية» الرجل على المرأة الواسعة وغير المقننة مسألة متناقضة مع حركة المجتمع وتقدمه.تجولوا في أروقة المحاكم الشرعية واستمعوا لمعاناة النساء فيها، ستجدون قصصاً يصعب فهمها، ومشكلات تنتجها مشكلات سابقة. وشخصياً أعرف إحدى الفتيات تلقت نبأ طلاقها من زوجها بالهاتف، وبكل بساطة، ودون سبب مقنع سوى أنه لم يعد يريد العيش معها. وأعرف أخرى ظلت معلقة لمدة عشر سنوات تلهث في المحاكم خلف الطلاق من زوجها بسبب سوء أخلاقه معها ومع الأبناء. حتى اضطرت لرفع قضية خلع ودفعت «مبلغ وقدره» كي تتطلق. ثم انخرطت في قضايا أخرى بشأن الحضانة والنفقة. وفي السنوات الطويلة هذه كان الزوج قد تزوج وأنجب وعاش حياته كاملة.حين نطالب بتجديد وتطوير قوانين الأحوال الشخصية فإننا لا نحرض النساء وندعو لتمردهن ولا نسيء للشريعة ولا نسعى لهدم كيان الأسرة. بل إننا ندرك أن الزمن تغير وأن الناس تبدلوا، وأن الأحوال لم تعد هي الأحوال السابقة. نحن نطمح لمنظومة أحكام قانونية تحمي الرجل والمرأة على حد سواء. وتحفظ حقوق الأبناء من تعسف الآباء وتقصيرهم. نحن نطمح لقوانين تتحرر من الأحكام المسبقة، وتضع في اعتبارها إنسانية الفرد وحقه في الاستقرار والسلام والحياة في راحة.