الدكتور محمد الحسيني


انطلاقاً من تصريح جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله تعالى أمس عن: «أهمية تحري الدقة عند كتابة تاريخ البحرين وأهل البحرين، وأهمية الاعتماد على المصادر الموثوقة»، أقول بأن تصريح جلالة الملك دقيق ورصين يعرفه المشتغلون بالتاريخ عموماً وتاريخ المنطقة خصوصاً، لأن الأمور التَّاريخية غالباً ما يحصل فيها الخلاف بين المؤرخين والباحثين، وهذا أمر طبيعي، وتاريخ الجزيرة العربية وقبائلها قد مرَّ بالكثير من الحوادث، وقد قيل فيه الكثير، وكُتب عنه الكثير، لأنَّها كانت منطقة ملتهبة في فترة من الفترات، ومازالت.

وللحصول على صورة أقرب للصَّواب والصِّحة يجب على الباحث المُعتني أن يضع معايير موضوعية، وأن يتَّبع خطوات بحثية منصفة، وأن يستعمل أدوات محايدة للوصول إلى الحقيقة التاريخيَّة.


أولاً: الأحداث والوقائع التاريخية، لا تثبت إلَّا بأحد أمرين: إما معلومات صحيحة أو تحليلات رصينة، وكلاهما يحتاج إلى وجود وثيقة تاريخية موثوقة وصادقة، سواء أكانت هذه الوثيقة ورقية،أو رواية شفهية، والتي تُنقل من جيل إلى جيل عبر أشخاص موثوق بهم، وبعض الأحيان جغرافية التاريخ يكون لها دور في فهم ما جرَى من الوقائع.

كيف نفهم تاريخ الخليج العربي؟

وعندما نتحدث عن تاريخ منطقة الخليج العربي ونتأمل في تاريخ قبائلها، ونحلِّل التَّحالفات التي تشكلت، والمعارك التي دارت، والأحداث التي وقعت، ولا يمكن أن نصل إلى نتائج مقنعة، أو نحصل على صورة دقيقة، لاسيما في الحوادث السَّياسية إلَّا بالرجوع إلى ثلاثة أرشيفات: 1) الأرشيف العثماني -وهو الأقدم-، 2) والأرشيف البرتغالي، 3) والأرشيف البريطاني.

لأنَّ النِّظام الإداري في هذه الدول كان يتَّبع سياسة كتابة التقارير اليومية وبالتواريخ، لرفعها بشكل دوري من فترة وفترة إلى المكتب الرئيسي في دولهم.

علاوةً على هذا يجب ألَّا نغفل عن الاستفادة من الوثائق الأخرى والموجودة في المؤسسات الثقافية بدول الخليج، وأيضاً المؤلَّفات التَّاريخية التي كُتبت عن المنطقة، وسجلت بعض هذه الأحداث والوقائع ووثَّقت بعض الشَّهادات التَّاريخية.

وبعد هذا المشوار بين الأرشيف العثماني والبرتغالي والبريطاني، والجولة البحثية بين الكتب والمصنفات والأبحاث التاريخية، يُمكن للباحث أن يكوِّن صورة عامة وشاملة حول ما حدث في الماضي، والاقتراب من جزء من الحقيقة وليس كلها!

لماذا نقول جزء الحقيقة؟

لأنَّ الوثائق في بعض الأحيان قد تكون متضاربة والرِّوايات متعدِّدة وغير منسجمة، فيحتاج إلى ترجيح تلك الوثائق والروايات، وتحليل ما حصل من التناقض بين الوثائق، وهذا يعرفه الباحث الممارس.

علماً بأنَّ الدول التي تدوّن الأحداث وترفع التقارير، إنَّما تكتب في المواضيع التي تهمها فقط، بحسب وجهة نظرها، ومن زاويتها، وبما يخدم مصالحها.

فتكون الصورة ناقصة وغير كاملة، وعلى الباحث أن يكمِّل تلك الصُّورة وأن يحلِّلها جيِّداً وفق ما معه من المهارات وما يمتلكه من الأدوات.

فلذلك من أراد الفهم الكامل والشامل لهذه الوقائع والأحداث، يتعيّن عليه جمع جميع الوثائق الممكنة، ثم فهمها بشكل صحيح، ثم تفسيرها وتحليلها ونقدها بطريقة موضوعية، وبهذا يمكنه الاقتراب أكثر من الحقيقة.

مع التأكيد بأنَّ مجال الخطأ أو التَّشكيك في الاستنتاجات التي توصَّل إليها الباحث لايزال قائماً بسبب غياب بعض التفاصيل المهمة.

علماً أن أهل الإنصاف من المؤرخين يقرّرون أنه ليس كل ما يُعلم يُنشر، وأن بعض الأحداث التاريخية يجب أن تُطوى ولا تُروى لاعتبارات عديدة.