أقلب في أوراقي القديمة بحثاً عن شيء أحتاجه، ألمح ورقة في أقصى صندوق مكتبي، أهمّ بفتحها، أجد بها رقم هاتف صديقي وزميل رحلتي التعليمية إلى أن افترقنا بعد التخرج في الجامعة قبل ربع قرن، سُعدت بالرقم، التقطت هاتفي لحفظ الرقم مضيفاً له مفتاح مصر للاتصال الدولي 002، نشطت لدي هرمونات الشجاعة، تحرك إصبعي الأكبر دقاً على الأرقام، لكني قبيل الضغط على زر الإرسال فوجئت أن هرمونات التريث كان أقوى.. وأبى إصبعي الأكبر أن يُكمل المهمّة.
فجأه تمهّلت في قرار الاتصال، وبدأ تفكيري العقلاني ينشط واندفاعي العاطفي يتأخر، فربع قرن من الزمان، ربما تكون قد غيّرت أشياء كثيرة، ارتفعت يدي اليسري لتعانق خدي الأيسر، تغلّفها نظرة عميقة وثبات في حركة العينين.. عندئذ شعرت أن الأمر ليس بالهيّن.. ماذا سأقول له إذا ردّ علي؟
وضعت هاتفي على منضدة على يميني، ألقيت ببصري في سقف الغرفة، مغلقاً جفون عيني، مستعرضاً شريط حياتي بالصوت والصورة، العمر يمر أمامي مر السحاب، كنت ألهث وراء طموحي للحصول على أعلى الشهادات وتأسيس حياة اجتماعية، كرسّت حياتي في هذه الأمنيات التي مَنَّ الله عليَّ بها، لكن على الجانب الآخر من النهر توجد أمور كثيرة أخذت رتباً تالية في أولويات حياتي، منها استمرارية التواصل مع الأصدقاء والأهل والزملاء.
كان رقم الهاتف أشبه بوقفة لمراجعة الذات وتقييم رحلة حياة ومراجعة خيارات وقرارات بعضها كان صائباً وبعضها جانَبَه الصواب، لكن هذه هي الحياة تجربة يعيشها الإنسان بصوابها وأخطائها، حيث تجرفنا الحياة مع فيضاناتها الشديدة وأمواجها المتلاطمة، دون أن ندري أن علينا مسؤوليات أُخرى مهمّة في الحياة ولكي نبرّر تقصيرنا، نبدأ بالبحث عن مبرّرات نُريح ضمائرنا وترضى أنفسنا.
استعدت شجاعتي المفقودة وبدأت في الاتصال بصديقي، لكني مازلت أفكر.. كيف أبدأ المكالمة؟ وما هي الجملة الأولى التي سأبدأ بها؟ هل هي جملة عاطفية أم عقلانية؟ أم كلمات المودة التي كانت بيننا؟ وماذا سأسأله هل عن أسرته التي كوّنها؟ أو عن ماله الذي جمعه؟ أم عن أصدقائه الذين كانوا يرافقوننا؟ كلها أسئلة ربما تكون ممنوع الاقتراب منها لحساسيتها.
عقدت العزم ودق الهاتف الآخر بنغمة مصر المميزة.. بدأت الاتصال الذي كان جميلاً ومليئاً بكلمات المودّة والشوق، حيث كانت الذكريات عنوانه الأساسي، لكن حاجز الـ25 سنة كان لايزال قائماً، فكل منا يستكشف الآخر من جديد، ويحدد معالم العلاقة من جديد، أيام الصبا ولّت وأيام الرشد أقدمت. كلٌّ منا يريد أن يقدّم لنفسه صورة ومكانة.
لكن الاتصال قد تمّ، خرجت منه بعِبر قيّمة في مقدّمتها ضرورة زيادة الاهتمام بصلة الرحم والتواصل مع الأهل والأصدقاء وزملاء الشباب والطفولة مهما بعدت المسافات وزادت الانشغالات، فالعمر يجري وخلال الرحلة يسقط الكثير من الأحبة، الذين نندم عليهم إذا تناسينا التواصل بهم.
إنها فرصة لنقلّب في قائمة الأسماء في هواتفتا بحثاً عن أصدقائنا وأهلينا الذين أخذتنا الدنيا بعيداً عنهم، رسالة نصية أو مكالمة هاتفية، فقد تكون علاجاً لبعضهم من مرض، أو إدخالاً لبهجة بعد حزن أو مواساة لألم أصابه، فديننا الإسلامي دين رحمة وصلة بالأرحام.
* أستاذ الإعلام وعلوم الاتصال