عماد المختار

"راحت السكرة وجات الفكرة".. ذاك هو حال خريجي التوجيهي كل عام.. وفرح النجاح كان البداية.. ولم ينه الحكاية.. وأصل الحكاية في حلم البداية باختصاص جامعي هم فيه راغبون.. وفي قدراتهم حائرون.. وفي سلطة الآباء تائهون.. فإلى أي مسار يتجهون؟ وماذا سيختارون؟ وأين سيدرسون؟ ذاك هو جوهر الحكاية..

يعيش الطلاب بعد المرحلة الثانوية حيرة اختيار التخصص الجامعي المناسب الذي يفتح أمامهم آفاقاً لمهنة المستقبل، ويحقق حلما طال انتظاره.



وبحسب ما يؤكده التربويون والطلبة أنفسهم فإن الالتحاق بالجامعة يظل حلماً عظيما يراود الطلبة، ويبذلون جهوداً كبيرة في التعلم لتحقيقه لكونه يرسم معالم المستقبل لهم ويمهد للحياة العملية، غير أن قضية التخصص تظهر بعد الانتهاء من المرحلة التوجيهية إلى مرحلة التعليم العالي الجامعي.

فيقع الطلاب في مطب اختيار تخصص صعب لا يتناسب مع قدراته ومستواه المعرفي جراء عدم الدراية الكافية، في حين ان اختيار التخصص المطلوب والمناسب يعزز قدرة الطالب على مواصلة مشواره الدراسي بتفوق ونجاح.

لكن هذا الحلم لعدد كبير من الطلاب سرعان ما يتلاشى مع اختبار القدرات، أو يصطدم مع سلطات الآباء.. أو يتقيد باختصاص الجامعات وبحدود البعثات.

والحقيقة أن التوجيه المدرسي نفسيا واجتماعيا وإداريا نبه في محطات كثيرة إلى كل هذه العوامل التي تحد من تحقق رغبات الطالب، حيث تنظم وزراة التربية والتعليم بالبحرين محاضرات لأخصائيين تربويين ونفسيين واجتماعيين، تقام بالمدارس من أجل حسم الخيارات وفق معايير محددة هي قدرات الطالب العلمية ورغبته الذاتية. وذلك لضمان توجيه دراسي سليم في توجهاته العلمية والنفسية والاجتماعية والتربوية، ما يطرد الحيرة عن الطلاب، التي لا تكون إلا بالتواصل الإيجابي وفتح قنوات الحوار على أسس المشورة والمعقولية.

إضافة إلى توجيهات المدارس في مجالس الآباء إلى قضايا الاختصاص الدراسي الجامعي وآفاقها في الجامعات البحرينية وخارجها. إلى جانب ما قامت بها هذه الجامعات من حملات توعية بزيارات ميدانية للمدارس في سعي منها على تقريب الصورة إلى ذهن الطالب حتى يسهل عليه الاختيار. ورغم ذلك تظل حكاية الاختصاص الجامعي قضية شائكة.. وتثير كل سنة قضايا تظل عالقة وتنتظر جوابا ومخرجا لاختيار المسار الجامعي المناسب..

الطالب أولا..

فمن جانب، أن الطلاب لا يقتنعون بقدراتهم.. فيركضون وراء أحلاما هم غير طائلوها بالإمكانات المحدودة معرفيا وماديا في بعض الأحيان. وفي هذا الإطار يقول الأخصائي في علم النفس د. مروان دويري: "أولا على الطالب أن يعرف نفسه جيداً ويحدد بالضبط اختياره الدراسي ليتمكن من المواكبة والتحصيل العلمي وهو راض، ودون أن يشعر بأنه كان ضحية اختيار فرضه عليه الأهل، أو أنه التجأ إليه بضغط من أحد، فهذا العبء النفسي سيجعل جهده مشتتا، ومن جهة ثانية فإن اختيار التخصص يفرض على الطالب الإلمام بالمساقات والاتجاهات المفتوحة للدراسة وما مدى ملاءمتها مع سوق الشغل، حتى يدرس وفق خطة محددة الأهداف ولا يشعر بالندم أو التراجع".

وهو رأي يدعمه الأخصائيون في التوجيه المدرسي، إذ يؤومنون بحق الطلاب في اختيار المهنة المُستقبلية التي يضمنها التوجيه والتخصص الدراسي المناسب، ويعتبرون دور الأهل توجيهيا للأبناء لا غير، منبهين إلى ضرورة فتح قنوات تواصل إيجابي ومعقلن وفتح أسلوب حواري يُتيح للأبناء الطلاب تحقيق ذواتهم وأحلامهم بالتلاؤم مع قُدراتهم وميولاتهم.

وينصح علم النفس التربوي الطلاب باختيار المجال الأقرب إلى نفوسهم ومُيولهم، بوصفه مجالا "يثير لديهم الفضول للتعمّق به، والشعور بالرغبة في ممارسته في المُستقبل". مشيرة إلى أن "الإنسان السعيد في عمله هو إنسان ناجح في مهنته وسوف يُبدع ويتميّز بها".

ويعتبر دويري أن "اختيار التخصص الجامعي لا يكون دائما صائبا وإن اختاره الطالب عن قناعة، فقد يكتشف عدم قدرته على الاستمرار فيه، لذلك يجب إبقاء باب إعادة النظر مفتوحا".

سلطة الآباء..

وأما من جانب آخر، فإن الآباء لا يحترمون رغبات الأبناء.. فيعزفون عن الضغط المتزايد، ويكتفون بالتوجيه والتحفيز والإرشاد، إلى الآفاق العلمية والوظائف المستقبلية التي يتيحه سوق العمل، في البحرين أو خارجها، حيث يؤكد الأخصائي في علم النفس د. مروان دويري، على أهمية دور الأهل في اختيار الطالب قائلا: "ينبغي أن يكون الدور إيجابيا عن طريق الحوار والمشاركة وعرض الخيارات المتاحة والآفاق الممكنة أمامه، وهو يختار أي التجارب سيسلك"، لافتا إلى "أن تغيير الاختيار لا يعني فشل الطالب"، داعيا أسرته إلى "تشجيعه على التغيير وخوض تجربة جديدة يبحث من خلالها عن التميز والنجاح".

وفي هذا المجال تتحدث أم محمد رئيسة قسم الإرشاد الطلابي بإحدى الجامعات الخاصة قائلة: إنهم يعملون مع طالبات السنة الأولى بالجامعة على متابعة مدى نجاح الطلابات في اختصاصاتهن من عدمه، والحالات التي نراها لا تتناسب مع القدرات نفتح فيها حوارا معمق بين أطراف مختلفة أكاديمية وإرشادية وبطبيعة الحال مع الطالبة وولي الأمر.

وتتابع أم محمد أن الغاية من هذا الحوار اقتناع الطالبة بأنها تحول فشلها إلى نجاح في اختصاص آخر، وذلك لمنع تسرب مثل هذه الحالات من الجامعة، مؤكدة أهمية "محاورة أهالي الطلاب وتمكينهم من آليات وأدوات التعامل مع أبنائهم في مسألة مصيرية كالتوجيه الجامعي". ونبهت أم محمد إلى ضرورة أن يكتفي الأهالي بنقل تجارب سابقة ونماذج ناجحة في اختيار المسار السليم"، مؤكدة أن "الطالب يظل في حلقة مفرغة ويصبح ضحية التردد ونقص التوجيه، وبالتالي تؤثر كل تلك المعطيات في سير دراسته، والتي قد تتسبب فيما بعد في انسحابه وابتعاده عن الدراسة نهائياً، نظراً للشعور بالإحباط وعدم القدرة على المواصلة، وبالتالي خسارة تلك الطاقات والكفاءات البشرية التي تعتبر عنصراً أساسياً ورافداً من روافد عملية التنمية".

الوعي..

وأرجع د. أحمد فلاح العموش رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة الشارقة وجود مشكلة اختيار التخصص إلى "غياب الوعي وضعف قنوات الاتصال مع الجهات ذات الاختصاص لاسيما المدرسة، التي يقع على عاتقها دور كبير في توعية الطالب بإمكاناته وما يناسبه من تخصصات خلال مرحلة الدراسات العليا، من خلال اكتشاف مواهبه"، وينبه العموش أنه "يجب على المدرسة دراسة إمكانات الطالب والجوانب التي يتميز بها والعمل على توجيهه بالشكل الذي يتوافق مع ميوله وقدراته، ولكن الحاصل أن المدارس تركز حالياً على التحصيل العلمي للطالب فقط، وتهمل الجوانب الأخرى".

ويقول العموش: "في الكثير من الأحيان يكون اختيار الطالب للتخصص الذي سيدرسه عفوياً ودون دراسة أو تخطيط، أو تقوم العائلة بهذا الدور، وبعد مرور الوقت لا يجد الطالب ذاته، ويكتشف أنه أخطأ في اختيار تخصصه ولكن في وقت متأخر، بعد إهدار جهوده وزمن الدراسة، ويقود ذلك إلى انسحاب الطالب من الحياة الجامعية وعدم تفاعله مع زملائه، وقد يصاب بالإحباط الذي يقود للفشل، وتنتهي بتركه الجامعة".

مكلف جدا..

ومن جانبه، تحدث عبد العزيز العسماوي (مدرس) من واقع التجربة قال: أنا تربوي وولي أمر، عندما أنهت ابنتي المرحلة التوجيهية، لم أتدخل في اختيارها التخصص الجامعي الذي كانت ترغب فيه، لأننا فتحنا الحوار من قبل، وكنت مقتنعا برغبتها، لكن المشكلة أنها في هذا الاختيار لم تجد لها مقعدا بجامعة البحرين، ما اضطرني إلى إرسالها إلى الصين، والكلفة بطبيعة الحال باهضة ماديا ونفسيا.

وأكد محمد حسن وهو موظف في الاتصالات ما ذهب إليه العسماوي، أنه لم يعارض رغبة ابنه في دراسة الهندسة المدنية بجامعة البحرين، ويضيف: تابع ابني دراسة الهندسة بنجاح، ولكن في السنة الثالثة فاجأني في وسط السنة بأنه رغب عن دراسة الهندسة ويريد تغيير اختصاص آخر، دراسته تكون في أوروبا أو أمريكا لا غير ، وكلفة الدراسة باهضة جدا.. ومرة أخرى تقبلت ذلك مكرها، للأنني أدرك أنه سيثقل كاهلي بالمصاريف.

وأما خالد يوسف وهو مدرس، فله رأي في الحكاية، يقول: كنت أزعم أني أعرف قدرات ابني جيدا وميولاته، فقد تعلم على يد، وكنت أتابعه يوميا تقريبا في كل المراحل الدراسية، وحين أنهى التوجيهي، ألزمته بدراسة هندسة الحاسوب، وتم قبوله بجامعة البحرين، وبعد سنة أولى ناجحة، رفض مواصلة الاختصاص، بدعوى أنه كرهه، وبعد حوار وجدل قبلت موقفه، وغير اختصاصه.

ومن جانبه، تحدث محمد إبراهيم وهو طالب بجامعة خاصة (سنة أولى حقوق) أن الطالب هو الشخص الوحيد القادر على اختيار التخصص الملائم له والذي يتوافق مع إمكاناته ورغباته، مع الاستئناس بمشورة الأهل وتجارب الآخرين، إلى جانب الإلمام بكافة الجوانب الأخرى التي تحيط بدراسته، بحيث لا تتعارض مع واقع السوق واحتياجاته .

ويضيف محمد أنه من المعارضين لتدخل أي كان في التخصص المدرسي، وخاصة الإلزام ولغة التهديد التي يلوّح بها بعض الأولياء للأسف، معتبرا أن هذه الأسلوب قد يحول دون رضا الابن عن دراسته لذلك التخصص الذي حددوه له، وبالتالي حدوث علاقة عكسية، فيكره الطالب واقعه ويحاول التنصل منه، ويقوده ذلك إلى الفشل .

وتوافقه الرأي فاطمة جعفر تخصص برمجيات، بجامعة البحرين قائلة: أنه يجب على الطالب أن يكون واعيا بقدراته، وأن يكون مقتنعا وراضيا عند اختيار التخصص، منبهة إلى الثقة بالنفس ولا ترى مانعا من الاستفادة من تجارب الأهل وخبراتهم.

وتضيف: لم أجد عناء في اختيار تخصص اللغة الإنجليزية، ولم أتردد، في ذلك لأنني منذ صغري أحلم بالتدريس، يستهويني التعليم، ورغم معارضة والدتي الشديدة التي هي بعد مدرسة ورفضت بشدة، وحاولت ثنيي لأنها تعتبرها مجهدة ومتعبة، ولكني أصررت على موقفي، وتقبلت والدتي رأيي وها أنا أمضي بنجاح في الدراسة، ولم أشعر يوماً بندم على اختياري هذا.. لأني الآن أنهيت الباكالورويس وأتابع دراسة الماجستير بتفوق، لأني اخترت الصح في نظري وعن رغبتي وعن وعيي.

فمتى نعي مسؤوليتنا ونحترم رغبة أبنائنا.. فالعقل الواعي هو القادر على احترام الفكرة حتى لو لم يؤمن بها.