أيمن شكل - فيديو نايف صالح

- رحلة شاقة من سوريا عبر تركيا والعراق والكويت والسعودية

- اختبار للأمانة وضع أمامي 10 ملايين دولار في بداية حياتي المهنية



لم يعرف عبدالكريم بوجيري أن طفولته مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمستقبله، فمن عثر عليه حين تاه من والدته، هو آخر رئيس له في العمل قبل التقاعد، والبيت الذي نام إلى جواره انتظاراً لأن يعثر عليه أهله، كان بيت الرئيس التنفيذي لأول مصرف يعمل فيه، لكنه استرجع تلك الذكريات وأخرى في حواره مع «الوطن» ليحكي مسيرة حياته.

حدثنا عن طفولتك وما حفر في ذهنك من ذكريات فيها؟

- ولدت في بيت بمنطقة محطة السيارات القديمة بالمحرق، وكنا تسعة أبناء لوالد يعمل سائق تاكسي، وكان يقطن معنا في البيت عمان وأبناؤهما بالإضافة إلى جدي، وكان مجموع سكان البيت 17 فرداً يعيشون تحت سقف واحد، وأذكر حين كنت في السادسة من عمري، كانت العائلات الميسورة فقط هي من تملك جهاز تلفزيون، وقد كانت خالتي من هذه الفئة حيث كان زوجها يعمل في شركة بابكو ولديهم تلفزيون يعرض برامجه في الفترة المسائية فقط وحتى وقت متأخر في الليل، وكنا نذهب لبيت خالتي أنا وأمي وأشقائي، وفي أحد الأيام، حملت أخي وأختي الصغيرة بينما تبعناها نحن الكبار مشياً، وبينما كنت أسير وأفكر في البرامج التي شاهدناها فجأة لم أرَ والدتي أمامي، فبحثت عنها حتى شعرت بالإرهاق ونمت إلى جوار أحد البيوت، وهذا البيت امتلكه فيما بعد خليل المير الرئيس التنفيذي للمصرف الخليجي التجاري.

وعندما اكتشفت أمي غيابي، أيقظت أبي من النوم وبدأت العائلة وجميع أهل الفريج في البحث عني، حتى عثر علي مراد علي مراد رئيس مجلس إدارة بنك البحرين والكويت الذي عملت معه حتى تقاعدت، ولذلك مازلت أتذكر هذين الشخصين وارتباطهما بعملي والعثور علي وأنا طفل، وكأنهما عثرا علي في الماضي والحاضر.

كيف كانت دراستك، إلى أن وصلت للجامعة وتخرجت؟

- مرت طفولتي بأحداث استقلال البحرين عن بريطانيا ودخلت مدرسة الهداية الخليفية وتخرجت منها، لأذهب إلى العاصمة السورية لدراسة الهندسة، لكن للأسف لم أتمكن من الحصول على مقعد في الكلية التي كنت أرغب الدراسة فيها، فحاولت الاتصال بوالدي لكي يرسل لي تذكرة سفر وأعود لأدرس في أي جامعة أخرى، وفي تلك الأيام لم تكن الاتصالات الدولية بالأمر اليسير، حيث يستوجب الاتصال الذهاب إلى مكتب البريد بمدينة حلب وطلب مكالمة والانتظار حتى يأتي الدور والذي ربما يتأخر لأيام.

وبقيت مدة شهر أنتظر محاولة إجراء مكالمة مع والدي، وبصعوبة شديدة تمكنت من الاتصال به أخيراً وأبلغته بما حدث وأنني التحقت مؤقتاً بكلية الاقتصاد، وطلبت منه إرسال تذكرة للعودة، لكن والدي طلب مني البقاء ودراسة أي كلية، لأن خريج الجامعة في ذاك الوقت كان يحصل على وظيفة بمجرد أن ينهي دراسته، ولم أكن أعلم أن هذا التحول في مسيرة دراستي سيكون الأهم والأكبر تأثيراً على مستقبلي، ولو عاد بي الزمن لأختار بين الهندسة والاقتصاد فلن أتردد في اختيار ما دبره الله لي من خير لم أكن أعلمه.

خلال دراستك في سوريا نشبت الحرب العربية الإسرائيلية؟

- في تلك الأيام تقطعت بنا السبل في سوريا فلم تكن هناك دراسة أو حتى أموال لكي نستطيع العيش أو العودة للبحرين خاصة مع وقف حركة الطيران، واجتمع كل الطلاب البحرينيين وقرروا جمع ما لديهم من مال، وتطوعت أنا وصديقي يونس الهرمي للسفر براً إلى العراق ومنها إلى البحرين بالطائرة، رغم أننا لم نكن نملك سوى من الليرات السورية مايعادل 3 دنانير و200 فلس، وركبنا قطاراً يمر عبر تركيا في رحلة مدتها 40 ساعة، وكابدنا برودة الطقس والجوع في هذا القطار حتى نحافظ على أموالنا القليلة، وكنا ننتهز فرصة توقفه بالقرب من مزرعة لنبحث عن أية فاكهة أو خضروات نسد بها جوعنا.

وللأسف تعطل القطار قبل أن يصل العراق وتم إبلاغنا بذلك فأوقفنا شاحنة وطلبنا من السائق توصيلنا مجاناً، فوافق على أن نركب في الخلف مع الخضروات، ووصلنا إلى بغداد بهدف البحث عن الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وكنا نعرف أنه قريب من التلفزيون، فركبنا تاكسي أوصلنا إلى المكان بصعوبة وأخذ منا 300 فلس.

وبعد وصولنا حكينا قصتنا فأبلغونا أن والدة يونس كانت موجودة في الاتحاد منذ ساعتين فقط وخرجت دون أن يعرفوا إلى أين ذهبت، حضرت من البحرين لتبحث عن وسيلة الوصول إلى يونس عبر بغداد، وبدأنا رحلة البحث عنها في كل فنادق بغداد دون جدوى، إلا أنها عادت في اليوم التالي للاتحاد، وكان اللقاء بين يونس ووالدته مؤثراً جداً.

وقررنا العودة إلى البحرين لكن مطار بغداد أغلق أيضاً، فكان لابد من الرحيل براً إلى الكويت على أمل ركوب طائرة من هناك، لكن المشهد تكرر وأبلغونا بالتوجه براً إلى الظهران وهناك سنتمكن من العثور على طائرة، وبالفعل تمكنا من العودة للبحرين وقام والدي بتحويل أموال لأخي وإنقاذ الموقف في سوريا.

ما هي أول وظيفة عملت فيها بعد التخرج؟

- أول وظيفة نظامية أشغلها بعد إنهاء دراستي الجامعية في عام 1976 كانت في وزارة المالية والاقتصاد الوطني، وبعد انضمامي إلى الوزارة بفترة قصيرة عهد إلي بصندوق التقاعد العسكري وكان قد أنشئ للتو، واستدعيت إلى اجتماع مع علي نور، رئيس الحسابات في الوزارة في ذلك الحين، فقال لي: «عبدالكريم، يجب تأسيس تلك الدائرة ووضع الإجراءات التي تحتاجها ولنبدأ بكيفية جمع الاشتراكات». وطلب مني دراسة القانون الجديد الذي أنشئ الصندوق بموجبه وحفظه عن ظهر قلب.

وذات يوم كنت جالساً في المكتب فدخل عليّ شيخ كبير فاقد البصر يبلغ الثمانين من العمر تقريباً تقوده ابنته، وقدم لي مستنداً وقال إن تلك شهادة وفاة ابنه الأكبر الذي كان يعمل في قوة دفاع البحرين، وقد أتى للاستفسار عن الاستحقاقات التي يحق له الحصول عليها لأنه كان عائلهم الوحيد، فرجعت إلى سجلاتنا واكتشفت أن ابنه لم يعمل في القوة سوى مدة 8 أشهر تقريباً ثم توفي، وصعقت عندما علمت أن المســـــتحقات المالية للعائلة بأكملهــــــــا لا تتجاوز 6 دنانير شهرياً، فطلبت من الشـــــيخ الكبير الذهاب إلى المنزل وانتظار مكالمة مني بعد إنهاء الإجراءات.

وذهبت إلى رئيسي وأخبرته بأنني لا يمكنني إخبار الشيخ الكبير بأنه لن يحصل سوى على هذا المبلغ الضئيل تعويضاً عن وفاة ابنه، وعليك أن تتولى تلك المهمة فرفض، فعرضت عليه فكرة وضع حد أدنى لمعاشات التقاعد الذين يتوفون أثناء الخدمة، وبالفعل تمت الموافقة عليها في اجتماع عاجل وعرضها على سمو الأمير عيسى حاكم البلاد وأصدر مرسوماً نص على أن كل من أفراد العائلة سيحصل على 40 ديناراً شهرياً، وكان ذلك المبلغ كافياً للمعيشة في تلك الأيام.

كيف انتقلت من العمل الحكومي لقطاع المصارف؟

- تركت وزارة المالية للعمل في البنك السعودي الفرنسي في عام 1978، وتنقلت في كل دائرة من إدارات البنك المختلفة لاكتساب المعرفة والخبرة التي أحتاج إليها، وبعد فترة حصلت على وظيفة في بنك الخليج الدولي براتب أعلى، فقد كان السبب في الانتقالات هو الفارق في الراتب.

ما هو الدرس المصرفي الذي لا تنساه في حياتك المهنية؟

- أواخر الثمانينيات، تولیت مسؤولية العلاقة مع اليمن في بنك الخليج الدولي، وكانت تلك الدولة الفقيرة تدين للبنك بمبلغ يزيد قليلاً عن 86 مليون دولار، وبسبب سوء الإدارة والأوضاع المالية الصعبة للبلد حينذاك بدأ العميل يتعثر ويمتنع عن السداد، وكنا نأمل بالتوصل إلى تسوية نهائية سريعة قبل استفحال الأمر، فاستدعاني مدير البنك غازي عبدالجواد وطلب منى السفر لليمن للتفاوض على تسوية الدين ومنحني موافقة على التسوية بشطب جزئي يصل إلى 50% وإنهاء العلاقة، فسافرت مع زميل آخر وكان شهر رمضان على وشك أن يهل علينا.

وعرض علينا رئيس البنك 40%، فحاولت رفع النسبة إلى 50% فرفض، وعدنا إلى البحرين، لكن عندما أخبرت غازي بما حدث فقال إنه كان يجب علي أخذ المال فوراً لأن حالة اليمن تزداد سوءاً وما عرض علينا بالأمس قد لا نحصل عليه مستقبلاً،

وأضاف: عد «بحقيبة كبيرة» وارجع بكل الأموال السائلة التي يمكنك أخذها منهم، ويمكنك النزول حتى 30%، ولا ترجع بدون المال حتى إذا استدعى الأمر عرض نسبة خصم أكبر.

ورفض زميلي السفر معي بسبب دخول شهر رمضان، فسافرت بمفردي، وعاودت مناقشتي مع رئيس مجلس إدارة البنك اليمني، وأخبرته بأنني تحدثت مع المدير العام للبنك وأنه رفض نسبة 40% التي كان قد عرضها علي قبل يومين، وسألته ما هو عرضك النهائي؟ فقال: 40%.

أجبته: صعب، لا يمكن قبول ذلك، ماذا عن 47.5%؟ سارت المساومات على هذا النحو على مدى نصف يوم من العروض والعروض المقابلة حتى اتفقنا في النهاية على التسوية بنسبة 42.5%.

وعدت إلى البحرين وأنا أشعر بسعادة غامرة بما حققته، فلقد وفرت على البنك أكثر من 10 ملايين دولار، فذهبت لرؤية المدير العام في اليوم التالي بعد عودتي لأعطيه الشيك، وحينها أبلغته بأمر كان في صدري وقلت له: «أرجوك ألا ترسل أحداً بمفرده ثانية للتفاوض مع عميل يعاني اختناقاً مالياً ولو لم أكن أميناً، فقد كنت سأتقاسم معهم الفارق والبالغ أكثر من 10 ملايين دولار دون أن تدري بشيء. أنا لا أدعي أنني أكثر البشر أمانة في العالم ولكن لو كنت أرسلت شخصاً آخر لا يتمتع بوازع من الضمير كان يمكن أن يخدعك ويتكبد البنك خسائر أكبر من الواقع». فشكرني وقال إنه سيشكرني عملياً عند تخصيص المكافآت السنوية، وقد فعل.

وهذه الحادثة أكدت لي على أهمية عدم تفويض سلطة أكثر من اللازم لمن يتعاملون مع الأموال النقدية، ويجب كذلك إرسال شخصين على الأقل في المفاوضات من هذا النوع، فيجب أن يصاحب ذلك الشخص أحد موظفي الشؤون القانونية أو التدقيق أو المالية لتجنب الاستغلال لمثل هذه المواقف من قبل أصحاب النفوس الضعيفة.

حياتك العائلية وأثرها على رسم مستقبلك؟

- في البداية لابد أن أضع عبارات العرفان لزوجتي صفية التي لولاها لما وصلت لهذا، فحين دفعت لها مهر 700 دينار، لم تتردد في أن تضعه بحسابي البنكي لأنها تعلم حجم الالتزامات الزوجية، واستقالت من وظيفتها المصرفية لتعتني بأسرتنا وتتولى كافة التفاصيل بدءاً من تربية الأبناء مروراً بإصلاح الأعطال المنزلية والذهاب إلى كراج السيارة والتعامل مع العمال، وتفرغت أنا لعملي دون أن أشعر بأدنى ضغط يؤثر عليه، ولذلك أعتبرها شريكة في هذا النجاح.

وفي بداية حياتنا الزوجية مكثنا ثماني سنوات دون أن يرزقنا الله بالأطفال وكان الحمل لا يصل إلى مراحله الأخيرة حتى يتوفى الجنين، وكان هناك طبيب يدعى

د. إريك سايمونز، نتابع معه على مدى 3 سنوات، إلا أنه قرر مغادرة البحرين للعمل في مستشفى كرومويل بلندن.

وفي إحدى السفريات إلى لندن قضينا أسبوعين في فندق يقع أمام مستشفى كرومويل ولم نكن ننوي زيارة الدكتور سايمونز وفوضنا الأمر لله، لكن في آخر يومين لم يكن لدينا برنامج فاقترحت زوجتي زيارة الدكتور سايمون، والذي اقترح علينا زيارة أخصائي آخر في مستشفى ويلينغتون هيومانا، فحددنا موعداً معه في اليوم الذي يسبق يوم مغادرتنا إلى البحرين.

وقام الطبيب بفحوصات ثم قال إنه عرف سبب المشكلة، ووصف لنا دواء لمدة 6 أشهر 3 مرات في اليوم، بل إنه حدد في الوصفة موعد الحمل بعد 180يوماً، وبالفعل حدث.

وكدنا نطير من السعادة وأخذنا الوصفة الطبية لصرفها لكن الصيدلي أبلغنا بأنه وقت الإغلاق وعلينا العودة اليوم التالي فأوضحت له أننا سنغادر صباح اليوم التالي، فقال إنه سيفتح الصيدلية مبكراً وقبل موعد الطائرة من أجلنا، وفي اليوم التالي أحضر الصيدلي الدواء وأبلغني بقيمته 3.82 جنيه (Three Eighty Two) فصعقت، حيث لم يكن معي سوى 10 جنيهات وحاولت إقناعه بقبول شيك لكنه رفض، فقررت أخذ كمية بما أحمله من مال على أن أبحث فيما بعد عن شخص يجلب لي البقية من لندن، وعندما أعطيته الجنيهات العشر قال: هذا أكثر من اللازم، فالسعر الإجمالي هو فقط 3 جنيهات و82 بنساً.. وبعد ستة أشهر حملت زوجتي وولدت ابني طارق.