بيروت - بديع قرحاني

بعد صحف "البلد" و"الاتحاد" و"السفير" و"الأنوار"، طوت صحيفة "المستقبل" آخر صفحاتها الورقية.

وودعت صحيفة "المستقبل" بنسختها الوقية قرائها، حيث صدر العدد الورقي الأخير من الصحيفة، وهو يحمل ضمن صفحاته أرشيفا لأبرز الأعداد والمحطات التي غطتها الجريدة منذ تأسيسها في عام 1999 وحتى اليوم.



وسبق ان أعلنت "المستقبل" توقفها عن الصدور الورقي مطلع فبراير.

وأسس الصحيفة رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري وورثها رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري.

رئيس تحرير "المستقبل" ومستشار رئيس الحكومة المكلف هاني حمود كتب الافتتاحية الوداعية المؤثرة تحت عنوان "المستقبل بين جيلين"، وجاء فيها: "قبل انقضاء القرن والألفية الماضيين بعام، أطلق رفيق الحريري جريدته، "المستقبل". يومها كان في المعارضة، في معركة ظاهرها مع إميل لحود، وحقيقتها مواجهة مع نظام الوصاية، ومع مشاريع متقاطعة لشفط النخاع الشوكي من وطن سحر رفيق الحريري بتركيبته وأهله وإمكاناتهما. بعد ذلك بخمس سنوات، دفع رفيق الحريري ثمن وقوفه في وجه هذه المشاريع، بدمه. ولم تنتهِ المواجهة. تحوّلت جريدته من المعارضة إلى الثورة، ثورة اللبنانيين على واقع كان العالم كله يتواطأ على إقناعهم بأنّ شيئاً لا يمكن أن يغيّره، فإذا بهم يثبتون العكس.

ومنذ ذلك اليوم، واللبنانيون جميعاً، ومعهم جريدة "المستقبل"، يدفعون ثمن الصفعة التي وجهوها لتواطؤ العالم، كل العالم، ذات رابع عشر من آذار، وثمن انتصارهم على مشاريع القضاء على لبنان كما رآه شهيدهم، فيتلقون الضربة تلو الضربة والطعنة تلو الطعنة، لكن لا يركعون. وبين إطلاق رفيق الحريري لجريدته، واليوم، عشرون عاماً. جيل كامل، ووقت كافٍ لتحولات عميقة، في الوطن والمنطقة والعالم. في التكنولوجيا، والإتصالات، والإعلام. في الكتابة، والأهم، الأهم: في القراءة.

لم نكن يوماً، في لبنان وعالم العرب إجمالاً، أبطال العالم في القراءة، لأسباب عديدة ربما لا مجال لتعدادها هنا. لكن الثورة التكنولوجية التي شهدتها السنوات العشرون الأخيرة - الجيل الكامل - غيّرت حتى في القليل من قراءتنا، وبخاصة للصحافة المطبوعة.

عشرون عاماً حوّلت جيلاً من القراء إلى مستهلكين يشعرون أنّ 120 حرفاً، أنّ كلمات لا يتخطى عددها مساحة شاشة هاتفهم الذكي، كافية لجعلهم يعرفون. فباتت معركة المحررين اليومية في جريدة "المستقبل" - كما كل صحف العالم على ما أفترض - إيجاد عنوان لا يشعر القارئ أنه رآه في الليلة السابقة، على شاشة هاتفه الذكي، بين رسالة نصية من قريب أو صديق، ومقتطف فيديو غريب وإن مركّب، رافقه إلى وسادة نومه.

وعشرون عاماً، أنتجت في نهايتها جيلاً جديداً، تحوّل من قارئ إلى ناشر، يُنافس الصحف بأخبار ينشرها هو، ويبارز كتابها بآرائه هو، على وسائل التواصل الاجتماعي. جيل لم يعد يقبل أن يقف بينه وبين الخبر محرر محترف في التدقيق باللغة والمعلومات والمصادر، ولا كاتب اعتنق الفكر قضية قبل أن يجرؤ على إبداء الرأي. جيل بعض معرفته من 120 حرفاً، ينشر الخبر ويبدي الرأي عبر الفضاء الرقمي المفتوح، حتى لو اختلط الخبر بالشائعة ولم يتجاوز الرأي الغريزة.

حسناً، غداً، يبدأ جيل جديد. جيل بلا... "مستقبل" في طبعتها الورقية، وجيل ستنتهي معه، عاجلاً أم آجلاً، كل الصحافة المطبوعة. عشرون عاماً جديدة، تبدأ اليوم، ولن تتنتهي فيها المواجهة. وستبقى فيها "المستقبل"، هذه المرة على منصة رقمية، تتنافس فيها مع قرائها - الناشرين الجدد، تتأقلم مع الفضاء الجديد، وتواكب ثورات التكنولوجيا، والاتصالات، خدمة لثورتها الأصلية، لثورة من أطلقها أساساً، في مواجهة المشروع الأصلي لقتل وطن، لا يموت، بل يتأقلم ويصمد، ويبقى دائماً شاخصاً إلى... "المستقبل"".

من جهتها، أعربت نقابة محرري الصحافة اللبنانية عن اسفها لاقفال جريدة "المستقبل" واحتجابها عن الصدور نهائياً بعد مرور 20 عاماً على انطلاقتها يوميّة من دون إنقطاع. واعتبرت النقابة أن "غياب جريدة "المستقبل" يعكس عمق الأزمة التي تعانيها الصحافة الورقيّة في لبنان، وقد سبق لدور صحافيّة عريقة أن أقفلت ابوابها لأسباب ماليّة أو غير ماليّة. وقد تسبّبت هذه الأزمة بإلقاء مئات الزملاء في اشداق البطالة. بعدما باتوا عاطلين العمل. كما أن الكثيرين منهم لم يحصلوا بعد على ما يستحقون من تعويضات تليق بإخلاصهم للمؤسسات التي عملوا فيها ومنحوها زهرة اعمارهم، ورفدوها بمواهبهم واقلامهم".

وتابعت أن "نقابة المحررين التي أحزنها اقفال "المستقبل"، تتمنى على القيمين عليها العمل على ضمّ الزملاء المصروفين إلى الموقع الالكتروني الذي يحمل اسم الجريدة، وإن تعذّر ذلك إعطاء تعويضات عادلة تنسجم مع التضحيات التي قدموها طوال فترة عملهم. وقد راجعت النقابة إدارة الجريدة في شأن الزملاء العاملين فيها فأكدت أنهم سيحصلون على حقوقهم كاملة وستدفع لهم تعويضات لائقة. على أمل أن تتبّدل الاحوال، فتعود جريدة "المستقبل" إلى الصدور، وتتوافر فرص العمل الكريم للزملاء".

وقالت إن "مسؤوليّة الدولة كبيرة حيال الازمة التي تعيشها الصحافة الورقيّة، وهي مطالبة باجراءات فورية لوقف ما يطالها من تدهور، في إنتظار المؤتمر الوطني لإنقاذ الصحافة اللبنانية الذي دعت اليه نقابة المحررين، حيث يؤمل وضع إستراتيجيّة توفر ديمومة استمرار هذا القطاع الذي كان وما زال يمثل ذاكرة لبنان السياسيّة والفكرّية والثقافية والاجتماعية، والشاهد على التحوّلات التاريخية فيه. ومن العار التنكر لهذا الإرث العظيم".