يبحث المؤمن الفطن عن سوانح التميز التي تجعله قامة متميزة في الحياة وفي كل مجالات خطواته، لأنه يُدرك بأهمية هذا التميز في سرد إنجازاته العملية في فصول حكايته، مُتطلعاً بأن تكون ذات فائدة وأثر مُستدام وانتشار واسع وصدقة جارية، يلمس أثرها في حياته وبعد مماته، ويقرأ سطورها في كتابه يوم القيامة. "المؤمن كيس فطن". و"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" كما أخبر بذلك مُعلم البشرية صلى الله عليه وسلم. المؤمن هنا هو الذي لا يَخدع ولا يُخدع ويأخذ حذره في خطوات المسير، ويستعد لحياة ما بعد الموت التي هي نتاج حياته الدنيوية. من هنا نُدرك أهمية التميز في الحياة والذي يأتي في مقدمة سطوره "الحكمة والإيجابية وأخذر الحذر" في جميع مقامات الحياة، من أجل أن يَسلم من توابع السلبيات المُقيتة ويحفظ نفسه من المنزلقات ومن توافه الأمور التي تُشغله عن معالي الأثر الجميل.

في كل مرة تتغير رؤيتي في مسارات التميز، وأعي بأننا على بعد خطوات بسيطة من أجل أن نحقق تميز الحياة المطلوب كما ننشده بواقعية، ومن أجل أن نكون رموزاً شامخة في قمم العطاء والأثر الجميل. على الرغم من التأخر في الإنجاز أحياناً أو البطء في تنفيذ بعض الأفكار إلا أننا على قدرة بأن نكون أبطال التميز المطلوب في الحياة وليس في مساحات معينة محصورة في أعمال بسيطة تستهلك طاقاتنا، لأن مفهوم التميز أكبر من أن يشمل بعض المساحات التي تعد فصلاً بسيطاً في حكاية "الأثر الجميل".

فعندما نتحدث عن تميز المؤمن "الإيماني" فإنما نتحدث عن ركيزة أساسية في تشكيل شخصياتنا وتشكل نمط تفكيرنا وتعاملنا مع الآخرين، وتعاملنا مع زوبعة المشكلات التي قد تظهر بين الفينة والأخرى، نتحدث هنا عن قوّة العلاقة مع الله عز وجل في المحافظة على صلواتنا وخشوعها، وقراءة القرآن وتدبر الآيات، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، والتسبيح، وقوّة اليقين والتوكل عل الله عز وجل. استوقفتني آية جميلة في سورة هود: "ولله غيبُ السموات والأرض وإليه يُرجع الأمر كلُه، فاعبُدهُ وتوكّل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون". فمرحلة التفويض والتدبير والتوكل هي مرحلة يقينية لا يصل إليها المؤمن إلا بقوّة علاقته بالمولى الكريم، وتأمله في كل مواقف الحياة، حينها سيُدرك أنه على قدر من قوّة الشخصية والتميز، يستطيع من خلالها أن يواجه الحياة بكل اعتزاز ويقين، ويحقق تميزه الذاتي بكل أريحيه.

وعندما نتحدث عن الشق الثاني المهم في سوانح التميز المتمثل في الآية الكريم: "وإنك لعلى خُلق عظيم"، فإنما نتحدث عن أخلاق نبوية فاضلة نتأسى بها في حياتنا، فكل خطوات وأثر ومواقف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هي حكايات تميز أخلاقي تعطينا نبراساً لمواقفنا ولخطواتنا نحو الأثر الجميل. بأن نحافظ على إيجابيتنا وأخلاقنا في كل موقف نمر فيه، ونحافظ على سمتنا الذي اعتدنا عليه في كل عثرة مهما كانت طبيعتها، لأن الخلق الرفيع هو الذي ينتصر في نهاية المطاف وبأثر لا يُنسى في الحياة. هكذا كان ديدن النبي صلى الله عليه وسلم الذي تحمل الكثير من أجل يوصل أثر الإسلام في كل النفوس ودخل بأخلاقه مكة فاتحاً وطهّر المسجد الحرام من الأوثان. وهو القائل عليه السلام لملك الجبال عندما أخبره: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فردّ عليه: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئاً". هي أخلاق الأنبياء بالتأسي بهم في حكمتهم وفي المحافظة على قوّة النفس في إدراكها بغاية وجودها في الحياة، ومن خلالها تنتصر النفس بأخلاقها النبيلة.

التميز في مواطن أثرك التي اعتدت أن تكون في مقدمة ركب المُنجزين فيها مهما تغيرت الظروف، فأنت حينها طاقة خلّاقة في عمل الخير تحافظ على سمتك وأسلوب عطائك الفريد بلا تراجع عن الإرث الذي شيّدته وكان له الدور البارز لتكون الاسم اللامع في عطاء الأثر. في بيتك، ومسجدك، ومع زملائك، وفي عملك، ومجتمعك، ومشروعك الحياتي الذي شيّدت أركانه منذ زمن، وحان الأوان لقطف ثماره اليانعة. التميز بزملاء الأثر الذين اعتادوا أن يصحبوك ويتعلموا منك، ويُقدرون سوانح تميزك، ويستذكرون بكل حب جمال العطاء معك في كل مشروعات الحياة، فهم من رسموا معك أجمل اللوحات التي ما زالت مُعلّقة على جدار قلبك، وأجملهم أسرتك الأولى، ثم أهلك، وصحبك ومن عرفك عن بعد وقدّر ما قمت به من جهد في محيط الأثر.

ومضة أمل

القرارات الحياتية أياً كان ميدانها لا تتحمل المزيد من المراجعة والتسويف، لأنها مرتبطة بمصير إنجازات الأثر الجميل، وبقوّة العلاقات، وبرسم لمحات المستقبل المُنجز.