من المهم تتبع كلمات جلالة الملك المعظم من لحظة تدشين المشروع الإصلاحي إلى يومنا هذا، فالمشاريع الأممية أو الكلية في المجتمع تتناول إلى جانب البناء التشريعي والدستوري، ثقافة المجتمع، وتوطين المفاهيم الديمقراطية، أو فلنقُل حاجة منظومة القيم العليا التي ينص عليها الدستور إلى رافعة ثقافية، هذا الوعي الثقافي يُمهد إلى تأسيس الجسر المعرفي المطلوب لتأصيل المفاهيم والمعاني في وعي الفرد والجماعة، وإلا أصبحت مفاهيم الديمقراطية مجرد إجراءات قانونية مفرغة من المضمون، ولن تساعد في عجلة التطور التي نتمناها وربما تكون العائق الأساسي أمام تطور التجربة السياسية في مملكة البحرين.
السؤال البديهي الذي يتبادر إلى الذهن، من أين نستنبط تلك المكونات الثقافية أو ذلك الجسر المعرفي؟ من أهم المصادر تتبع خطابات صاحب المشروع جلالة الملك المعظم إلى جانب الجهود الأكاديمية والثقافية الأهلية، ولدواعي عدم الإطالة في الموضوع محل البحث، سأعطي مثالاً على المقصود، في إحدى الخطب قال جلالة الملك المعظم: "..النظام الذي ارتضيناه هو النظام الملكي الدستوري للدولة المدنية الدينية.."، استوقفتني تلك العبارة للوهلة الأولى، لأن مسألة المدني والديني كانت وما تزال محل بحث ونقاشات مطولة على مستوى العالم الإسلامي، تحت وصف "فصل الدين عن الدولة" على اعتبار إنها فكرة حداثية، غايتها نقل المجتمعات الإسلامية من دائرة النقل إلى دائرة العقل، على غرار ما حصل في أوروبا من عصر التنوير وما تلاه.
إلا أن هناك فئة مهمة من المفكرين العرب تجد أن السياق الأوروبي الذي أدى في النهاية إلى فصل الدين عن الدولة يختلف عن السياق الإسلامي، ويرجعون ذلك إلى عدة أسباب من بينها طبيعة ونطاق فقه المعاملات، الذي يتناول تقريباً كافة جوانب الحياة بالتكليف والأحكام الشرعية، ويقترحون بدلاً من فصل الدين عن الدولة محاولة "تنظيم العلاقة بين الدين والدولة"، أي أنه لا يوجد مدعى واقعي لاستنساخ التجربة الأوروبية، أو فلنقُل لا يوجد تطابقٌ بين صيرورة الديمقراطية في الغرب وتلك التي في الشرق والعالم الإسلامي.
أهمية مقولة جلالة الملك المعظم أنها تتناول هذا الإشكال الفكري المعاصر بمواءمة متطلبات الديمقراطية من جانب، ومن جانبٍ آخر تنظيم تقاطع المفاهيم بين الديني والمدني، هذه مسألة تحتاج إلى جهد وصبر واستمرار في البحث من قبل كافة الأوساط والجماعات المختلفة، لغاية توطين تلك المفاهيم لخدمة حركة التطور السياسي في المملكة.
لتقريب الصورة لنأخذ مثلاً أحزاب وجماعات الإسلام السياسي، سنجدهم يرددون مقولات مثل "الإسلام هو الحل" بدون توضيح ما هو المقصود من تلك المقولة، وما هو شكل النظام السياسي، أو ما هي المفاهيم التي تؤصل للتعددية والحرية، وكيف يقترحون تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، أو ما هي علاقتهم بالحداثة، ذلك لأن المقولة العامة "الإسلام هو الحل" تستخدم لكسب مشاعر الجماهير التي يحتاجونها في حراكهم السياسي، فالمسألة هنا لا تتعلق بالحق في التداول السلمي للسلطة داخل الأطر الدستورية، إنما تتعلق بأصول العمل السياسي المفقودة، لأحزاب سياسية مجهول البنية والملامح الأساسية، تلك الملامح النظرية التي تؤصل للأفكار وتخاطب العقل بدلاً من العاطفة، مصيبة هذا التلبيس الإجرائي الذي تتبعه جماعات الإسلام السياسي يظهر جلياً في خطابها السياسي فما أن تصل تلك الجماعة إلى السلطة حتى يتضح إنها استخدمت الأدوات السياسية الدستورية للانقلاب على الدستور وإلغاء أشكال التعددية وإعاقة الإصلاح ودفع المجتمع لهاوية العدمية.
الجماعات والأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية العربية لا تختلف عن الإسلام السياسي من ناحية التلبيس الشكلي الإجرائي لمضامين الديمقراطية، فأغلب الخطاب السياسي موجه للعاطفة بهدف تحريك مشاعر الجماهير دون الاهتمام ببناء الوعي الجمعي الثقافي، فعندما تستمع لخطابٍ سياسي تذكر أهمية أن تتعرف على البنية المعرفية المشتغلة في الخلفية لهذا الفريق أو ذاك، فالخطورة تكمن هناك، لأنك عندها ستتمكن من التمييز بين الغث والسمين، بين المعقول وغير المعقول، بين المحفزات و المعوقات، وبين الحقيقة والخرافة..