قد يتذكر معي متابعو أفلام السينما الهوليوودية السلسلة الثلاثية المعروفة باسم «Night at the Museum»، ولمن لم يشاهدوه، فالفيلم عبارة عن متعة بصرية وتغذية عقلية للكبار والصغار، وتدور قصته حول حارس المتحف الذي يدخل في مغامرات ليلية تعود فيها الحياة لمعروضاته، بسبب لوح فرعوني سحري، فتحكي شخصياته، على الطريقة الشهرزادية، قصصها التاريخية، وتتصاعد أحداثه مع تأكسد اللوح ومحاولات إنقاذه، كي يحتفظ المتحف بسحره.

الفيلم الذي تم تصويره في بعض أشهر المتاحف الأمريكية والبريطانية، واقتبس فكرته من قصة أطفال لكاتب كرواتي، يلفت النظر لدور المتاحف ومكانتها في حياة الشعوب، كما أبدع في وصف تفصيلات هذا الدور، وخصوصاً جانب العناية بالبحث والتعلم، ومسألة ربط الماضي بالحاضر من خلال ما تختزنه من شواهد ومرويات تُسهم في إعلاء قيمة انتماء الفرد لتاريخه، وكسب تقديره لتضحيات وصولات وجولات أسلافه.

ولكنه حذّر؛ أي الفيلم، من الصدأ والوهن الذي قد تتعرض له بنية ومكانة المتاحف، لتتحول، والعياذ بالله، إلى مخازن ومستودعات، عوضاً عن كونها شاهدة على الحضارات ومؤتمنة على التاريخ، ومكلّفة بمهمة إيصال أبرز دروسه وتجاربه لإبقاء شعلة التميز الحضاري متوقدة في نفوس صناع الحاضر.

ومن السهل أن نبشّر بأهمية المتاحف وفائدتها لتقوية الارتباط بالهوية الوطنية، وفهم سياقات تكوينها، إلى آخر هذا الكلام الجميل المرسل، الذي قد يصطدم بواقع تبدل المزاج العام وعدم اكتراثه بما تكشفه المتاحف من أسرار وما ترويه من قصص محفزة للهمم.

وهذا الواقع هو ما يقلق القائمين عليها ويجعلهم في حيرة من أمرهم ويتمنون، في ظننا، أن يكون في متناولهم ذلك اللوح السحري الذي اكتشفه حارس المتحف الأمريكي!

وإذا سألنا أي مختص في «العالم المتحفي» عن أسباب فتور العلاقة مع مرتاديها، فنعتقد أن الإجابة ستكون متشابهة، لأن التحديات هي ذاتها.

ويعود هذا الفتور إلى جمود كياناتها، وبطء حركتها، وانقطاع تواصلها مع محيطها، لتبتعد عن المتوقع منها كفضاءات ومنصات حية تحتضن نماذج التنوع الثقافي والفكري لمجتمعاتها، لتجسد قيمها الإنسانية، وتوثق فصول رحلتها، بعيداً عن رتابة السرد القاتلة وهي تحتفظ بذاكرة من تعتني بهم.

ودون أن تعمل تلك المؤسسات على تجديد الدماء في عروقها وتعميق تأثيرها الثقافي، فإنها ستفقد مع الوقت قوتها وبريقها، وستزداد الفجوة بينها وبين جماهيرها، لأنها لم تعد تثير فضولهم المعرفي ولا تفاجئهم بأي جديد.
ولكن ما الجديد الذي نبحث عنه لإنقاذ روح المتاحف؟

هل المقصود هنا تكديس أجنحتها بالمقتنيات والتوسع في مبانيها والتركيز فقط على تجميل واجهاتها وتغيير ديكوراتها؟

أم المطلوب منها أن تستعيد قدرتها على المناورة بتجديد رؤيتها لخارجها ونظرتها لداخلها، فتبدأ أولاً، بتقوية علاقاتها مع حلفائها في حقول التربية والتعليم والإعلام والثقافة، لاستحضار جوهر التاريخ، ورفع الذائقة الثقافية والفنية، وإنتاج المعارف من خلال ما تقتنيه من كنوز مرجعية لا تقدر بثمن.

ولتجديد داخلها، يجب التركيز على خبراتها البشرية لرفع مهنية التقاط مؤشرات التغيير للاستحواذ على اهتمامات جمهورها الذين تتنوع أذواقهم واهتماماتهم، بين طلاب بحث وعلم، وأهل ثقافة وفن، وصولاً إلى السائح من الداخل والخارج.

وإذا آمنا بأن المتاحف هي واجهة ومحطة للعالم الخارجي للتعرف على التكوين الإنساني والهوية الجمعية لأي مجتمع، فعليها إذن أن تخرج عن المعتاد بتفكير يتمرد على الروتين، ولا بأس من بعض الاعتمادات المالية الإضافية، إن كان سيؤدي إلى تطعيم السياحة، بعوائدها المجزية بجرعات ثقافية ذات فائدة، كأن يتم مثلاً:

- استقطاب النشاطات الثقافية المحلية لتحفيز الأفكار الجديدة من خلال حوارات وفعاليات مركزة تتعلق بحاضر ومستقبل تلك النشاطات لجني فوائدها على الواقع الثقافي.

- واستثمار برامج التبادل الثقافي مع المجتمعات العالمية، كأن تأتي بعروض زائرة، لفترات محددة، تجذب الجمهور نحو تجربة فكرية جديدة.

- وتقريب المسافات مع المؤسسات التعليمية والأكاديمية لإيجاد موطئ قدم للتاريخ في قلب التعليم، والعكس صحيح، لتتدفق العلوم والمعارف في شرايين المتاحف.

- وتكثيف التعاون مع المتاحف العالمية لاقتباس تجاربها وأسرار نجاحها.

- وإدخال ثقافة ارتياد المتاحف ضمن الأدبيات التعليمية والمواد الإعلامية والسياحية، بشرط أن يكون في مقابل ذلك، ما يلبي أذواق روادها ويثري معارفهم.

- وبالعمل على إعادة اكتشاف وتوصيف مهنة العمل في المتاحف، وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، توطين برامج تدريبية مركزة، وربما منح شهادات احترافية في التنقيب الأثري، أو في تاريخ الفن أو العمارة، أو حتى العمل المتحفي.

وخلاصة الأمر، إذا أرادت المتاحف أن تبقى «متيقظة» ومستجيبة لقاعدة «العرض والطلب»، فذلك يتطلب جهداً جهيداً، ولكنه ليس مستحيلاً، فالمعروف أن العائد من الاستثمار فيها سيرفع من إسهامها في دائرة الاقتصاد الثقافي بمفرداته الإبداعية، وصولاً إلى تنويع مصادر دخل الدائرة الأكبر لأي اقتصاد وطني.وكل 18 مايو والمتاحف بخير.

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة