حفل شهر ديسمبر 2012 بنتائج مسألتين دستوريتين في بلدين عربيين هما الكويت ومصر، كان القاسم المشترك بينهما هو أن الخلاف الذي ثار بين السلطة التنفيذية وأطراف المعارضة انصب على قضايا دستورية بدلاً من أن يكون مجرد نزاع بشأن بعض السياسات الإجرائية. عندما تتوافق الظاهرتان زمنياً، وفي ظروف سياسية غير متشابهة، في دولة عربية عريقة مثل مصر وأخرى حديثة النشأة هي الكويت، فهذا يعني أن هناك موجة تغيير وتحول تعم المنطقة العربية برمتها مبشرة بتطورات موضوعية تفرضها عوامل متعددة، البعض منها داخلي محض، لكن الكثير منها رشح بفضل تحولات عالمية، لم يعد في الوسع الوقوف في وجهها. وحدها القوى الذكية التي تمتلك نظرة مستقبلية واسعة ستكون القادرة على أن تحصد لصالحها ما سوف تخلفه وراءها هذه الموجة من حقائق على أرض الواقع، وبالقدر ذاته، سيكون الخاسر الأكبر تلك القوى التي تصر على أن تأسر نفسها في قيود التاريخ، وتقبل بالعيش حبيسة جدران الواقع.
تطرح تلك النتائج، والتداعيات التي ستتولد عنها مجموعة من القضايا التي تقتضي معالجة كلتيهما بعيداً عن حصر الموقف، عند النظر بتمعن في ما جرى في الدولتين العربيتين، في رفع الإصبع بالتأييد أو خفضها للشجب، ففي مثل هذا السلوك تقزيم لأي من تلك الظاهرتين. ومن هنا تبرز الحاجة إلى النظر بتمعن، وهي مهمة تقع مسؤولية التصدي لها، وبالجرأة المتوخاة، على عاتق الحرفيين السياسيين في صفوف القوى المعارضة، أو في إدارات الدولة، على حد سواء.
في البدء لابد من الاتفاق على أن تلك الظواهر، بغض النظر عن الجهة التي تميل لها كفة موازين النتائج، هي إيجابية في جوهرها ومجملها، بل وحتى في آفاقها المستقبلية، عندما تقاس الأمور بالمعايير الوطنية الكلية، وليس المصلحة الفئوية الضيقة، إذ تؤسس محصلتها النهائية، وبشكل موضوعي، لمجتمع عربي مدني متحضر، يطمح لبناء دولة معاصرة يستمد مواطنوها آليات تنظيم العلاقات في ما بينهم من مكونات مؤسسات تشريعية واضحة المعالم، راسخة البنيان، مهما بدت واهية في هذه المرحلة. فأن ينتقل الحوار، حتى عندما يبلغ درجة من العنف غير المقبول، بين الأطراف الضالعة في سبك العملية السياسية في أي بلد، من مجرد صراعات آنية حول خطة معينة أو مشروع محدد بعينه، إلى ذلك الذي يمس جوهر البنية التشريعية، إنما يدل على سير هذا البلد المعني في الطريق الصحيحة ونحو الأهداف المرجوة. من الطبيعي، أن تكون الرحلة شاقة، والمصاعب جمة، والتحديات ضخمة، والتضحيات جسيمة، لكنها، في نهاية المطاف لابد وأن تؤسس لمجتمع مدني أفضل. يلي ذلك، لابد من الالتفات نحو بعض مظاهر العنف التي رافقتهما، والتي كانت أكثر حضوراً وأشد شراسة في الساحة المصرية، فهي الأخرى، ورغم شجبنا لكل مظاهر العنف، وتعاطفنا مع الدعوات الصادقة المتنامية الشاجبة له، والمطالبة بتحاشيه، لكنه -أي العنف- ظاهرة إنسانية مصاحبة لكل عمليات التغيير التي شهدتها المجتمعات البشرية، بما فيها تلك الأوروبية التي يتغنى الكثيرون منا نحن العرب بها، وهم محقون في ذلك، ويطالبوننا بالسير على هديها. فدماء شهداء الثورة الفرنسية هي التي كتبت الدستور الفرنسي، وعلى نحو موازٍ له العقد الاجتماعي، وتضحيات الشعب البريطاني الجسيمة هي التي صاغت الأعراف الدستورية الراقية التي حددت معالم المجتمع الديمقراطي الذي ينعم به المواطن هناك. بعدها نصل إلى القضية الثالثة التي تثيرها تلك الظاهرة في البلدين المعنيين، وهي المواطنة، فهي تثير، بشكل مباشر أو غير مباشر، واعٍ أو غير واعٍ مسألة الموقف من قضايا المواطنة، في إطارها السياسي / الاجتماعي العام التي تنقل المواطن ذاته، من مجرد رقم في سجلات التعداد السكاني، إلى خلية حية متفاعلة في جسد المجتمع الذي ينتمي له. فالمواطنة الناضجة الراشدة تقوم على عقد اجتماعي متفق عليه وفق دستور واضح وقوانين مطبقة يلتزم بها جميع الأطراف من أفراد في قمة السلطة، وشخوص في صفوف المعارضة.
وربما هذا يدعونا للعودة إلى تعريف المواطنة والتي هي مشتقة من كلمة «وط ن»، والمعرفة في لسان العرب على أنها «المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله، والجمع أوطان، وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها... وَطنَ بالمكان وأوطن: أقام، وأوطنه: اتخذه وطناً، يقال: أوطن فلان أرض كذا وكذا؛ أي: اتخذها محلاً ومسكناً يقيم فيها، والميطان: الموضع الذي يوطن لترسل منه الخيل في السباق، وواطنه مواطنة مثل وافقه موافقة وزناً ومعنى». البعض الآخر من أمثال الكاتب عريب الرنتاوي، برجعها إلى «الفعل الرباعي المزيد (واطن)، بمعنى ساكن وعايش واصطحب».
وبناءً على ذلك، وكما يرى الكثيرون «يجب الإقرار بأنّ موضوع المواطنة ليس من الأمور المسلم بها، إذ لكلّ وَطنٍ ثقافته التي ينتجها تاريخه الخاص، وما بين النموذجين: المواطنة الفردية والجماعية تنوّعٌ كثير، وتجاذبٌ جدلي فاعل، غير أنّ من المهمّ الإشارة إلى أنّ ممارسة المواطنة على نحو جماعي تتعايش مع ممارستها على نحو فردي، وهو ما نراه بارزاً في المجتمعات العربية».
وعودة إلى مصطلح المواطنة، هناك أكثر من مدخل، بل وحتى تعريف لها من بينها، ذلك الذي نشرته إحدى المدونات الجادة «/http://lahodod.blogspot.com»، والذي جاء فيه أنها هي «الثقافة الوطنية هي التي تنتج مفهومها للمواطنة، وهذا يعني أنها ليست انتماءً جغرافياً، يقبل التجزئة، أو التقسيم إلى قطع فسيفسائية وفق الحاجات والأهواء والمتطلبات لأية جماعة من الجماعات المكوّنة للنسيج الاجتماعي الوطني، لكنها انتماء إلى هوية تكونت تاريخياً على أرض محددة، هي الوطن المنتمي إليه، ولها خصوصية ذلك التكوين التاريخي، غير أنّ هذه الخصوصية قابلة للتطوير بالحذف والإضافة، وفق مستويات الوعي الوطني، وطبيعة التحديات، وخيارات المواجهة، التي تحفظ وحدة الوطن وكرامة المواطن، وتمضي به نحو حياة أفضل.
إنّ وعي مفهوم المواطنة على نحو صائب، ومؤسس على وعي تاريخي، متصل بالواقع المعيش ومستشرف للمستقبل هو من الأمور المهمة جدّاً لتحقيق المواطنة على نحو فردي وجماعي معاً، شريطة ألا يؤدّي ذلك إلى تهديد الوحدة القانونية للوطن».
ولعل أهم ما ورد في تلك المدونة إشارتها إلى أنه «من أهمّ التحديات التي تواجه مفهوم المواطنة عربياً تكمن في إشكالية علاقتها بالمجتمع المدني من ناحية، وبمنظومات الولاء والانتماء من ناحية ثانية».
من هنا ربما من التحديات التي تثيرها رياح ما عرف باسم «الربيع العربي»، هي مدى قدرة القوى المنخرطة في الصراع على التوقف لحظة، تتأمل فيها مدى اقتراب برامجها التي تطرحها، وسلوكها الذي تمارسه من أجل تحقيق تلك البرامج، والمعارك التي تخوضها دفاعاً عنها، من مفهوم المواطنة الراشدة البناءة، ومن ثم تصبح قادرة على قياس دقيق للمسافة التي تفصلها عن التأسيس لغرس جذور تلك المواطنة الراشدة عميقاً في أذهان ونفوس المواطنين الذين تخاطبهم، وتدعي أنها وضعت تلك البرامج خدمة لمصالحهم، ودفاعاً عن حقوقهم التي يستمدونها، بطبيعة الحال، من تلك المواطنة الراشدة العاقلة التي نتحدث عنها.