رحل يحيى بن يحيى وهو صغير إلى الإمام مالك رحمه الله، فسمع منه وتفقه عليه، وكان مالك يعجبه سمته وعقله، روي أنه كان يوماً عند مالك في جملة أصحابه، إذ قال قائل: «قد حضر الفيل»، فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه وبقي يحيى مكانه ولم يخرج، فقال له مالك: لم لا تخرج فترى الفيل لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال له يحيى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجيء لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه: «عاقل أهل الأندلس».
لعلك تضطر في مسير حياتك أن تصنف الناس إلى عدة أصناف، من الممكن أن تتعامل مع كل صنف بحسب رؤيته واهتمامه وطبيعة أهدافه ومسلكه، هذه الأصناف قد تضطرك أحياناً أن تستبدل بعض أساليبك الحياتية، وتغير بعض قناعاتك تجاه العديد من المواقف التي تقتبس منها ما يعينك على آخرتك.
الصنف الأول، كعاقل أهل الأندلس، لم يلتفت للمشتتات التي حوله، ولم يضيع وقته ليهتم بأمور ليست ذات أهمية بالغة في حياته، فهو قد شد على نفسه ليهتم بهدفه الأسمى الذي جاء من أجله، فلم يلتفت لهرولة الناس نحو مواقف لا تمثل أسسها أي معنى لحياته، لذا من الجميل جداً أن تنسحب فكراً وروحاً من ميادين البشر الذين يضيعون أوقاتك في تفاهات العيش، ويشتتون جهدك في أمور هامشية، فيبتعدون كثيراً عن الأهداف، ويهدرون الأوقات في «كيف صنعت الساعة؟». يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: «المرء حيث يجعل نفسه، فإن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت»، زاد المربين.
الصنف الثاني، الذي غط في سبات عميق، وعاش في تلك الأحلام السادرة التي جعلته يحلم بآماله وأهدافه ورؤاه بعيداً عن الواقع، صنف كتب نظرياته في كراسات عابثة، وقرأ عشرات الكتب، ولكن مع الأسف الشديد ظل يحلم ويغرد بعيداً عن السرب!! فلهجته لا تتحدث إلا عن ماذا سنفعل ونفعل، أو هذا خطأ وأولئك يعبثون بنا!! يظل يحلم ويحلم، ثم تراه لا يمتلك أدنى ذرة من تحقيق الآمال على أرض الواقع!
الصنف الثالث، هم أولئك الذين يشترونك بمعسول الكلام، ويزينون لوحاتهم بأجمل الكلمات، ويقبلون جبهتك ويدك، ويهدونك أجمل الهدايا، ولكن في الواقع المعاش تراهم مجرد آلة تحفظ تلك الكلمات المنمقة، وتدفع بمحبتك إلى صحراء مجاهيل الحياة.
الصنف الرابع، هم أصحاب الابتسامات الخداعة التي تعزف أمامك ألحان الأحاسيس المرهفة، ثم تخدعك بعيدا في أعماق البئر، وتطعن وتشكك في شخصك وإنجازاتك واتجاهاتك، إنه صنف خداع، احذر من أن تستمر معه طويلاً في مسير الحياة.
الصنف الخامس، هم الذين يقبعون في مقاعد آخر الركب، وكما قيل: «إن لم تزد شيئاً على الدنيا، كنت أنت زائدا عليها».. وقال أحدهم: «إذا كنت تعيش على هامش الحياة، فمن حق الحياة ألا تحفل بوجودك». هم أولئك الذين ابتعدت حياتهم عن الإنجازات والبصمات المؤثرة في محيط غيرهم، فهم قد اكتفوا بأن يجلسوا على مقاعدهم ويتفننوا في تتبع عثرات غيرهم، حياتهم مجرد عبث من الكلام الفارغ.
الصنف السادس، هو الشخصية الشرسة العدوانية الناقدة بعنف وهجوم ساخط، بلا حلول تظهر في الأفق، شخصية لا يعجبها شيء، ولا تضفي للآخرين أي شيء، وتستبدل أوزان الاحترام والتقدير بأخرى تضر بسمت الآخرين، صنف يستهزأ ويتذمر ويدير أموره على هواه، ويتحكم في غيره، صنف يبرق ويرعد ويزلزل الأرض متى ما كان القرار الذي أمامه لا يتوافق مع رؤاه وهواه، حيث يفسر كل الأمور بهواه لا بموازين المنطق والإيجابية.
الصنف السابع، المسارع في الخيرات المبادر لعمل الصالحات، الذي يغتنم كل لحظة ليعمل فيها خير، ويستفيد من كل لحظات حياته ليزرع في مزارع غيره قيم الحياة الجميلة، ويحول كل معاني الحياة إلى «شواهد للأجر» التي تنفع صاحبها، وتشد من أزره وتدفع بعزمه لبلوغ مراده والظفر بالجنة الغالية، فكن مبادراً لعمل الخير، مسارعاً في إنجازه ولا تفوت عليك الفرصة فهي لا تعود أبداً!
الصنف الثامن، الذي اعتاد لسانه أن يعبث في شؤون غيره، ويشيع الفوضى في محيط عمله، بنشره لخصوصيات التعامل، حتى يظفر بكسب المؤيدين والأنصار ويستعطفهم من أجل أن يسيروا معه في الركب!! إن عبث الألسن ومسلكها المشين يرديها والعياذ بالله في مهلكات الأمور، فهي ألسن لا تتوخى الحذر عندما تتحدث، بل تراها تنفث السم كلما أحست بأن هناك من يعارض أفكارها ويحاول أن يحل محل مساحاتها البائدة!
أصناف تحتاج بأن نقدر بعضها، ونتغافل عن تصرفات بعضها الآخر، حتى لا تلهينا عن تحقيق أهدافنا ورؤانا ورسالتنا في الحياة. تمسك بصنف «عاقل أهل الأندلس» فهو الصنف الذي سيمسك بيدك نحو تحقيق الخير في دنيا البشر والوصول إلى بر الأمان، «الفردوس الأعلى».