يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: «هذه نفسي أسائلها: هل تعرف النفوس الوفاء، وهل تدور مع الدهر الدوار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبوسها، وتتخذ لكل يوم ميزانه، فيهون عندنا اليوم ما عز بالأمس، ويرخص ما غلا، ويغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نباليه، وقبلاً كان مناط حبنا، وكنا نقنع إن كان وصله حظنا من دنيانا، أو كان موضع إكبارنا وكان رضاه نهاية متمنانا، ونمر بالمكان لا نلتفت إليه، وفيه ذقنا حلو العيش ومره، وفيه أثر من أنفسنا، وفيه بقايا من أعمارنا!! لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلا وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات لما صدقت! فكيف هانت علي هذا الهوان، وقد كانت بالأمس نصف دنياي»..
يتذكرك فيرسل أشجانه إليك برسالة يبكي فيها على الأطلال.. يتذكرك فيزعم أنه يحن إليك حنين الطفل لأمه.. فيفزع لتقبيل جبينك تكريماً لك وتعظيماً لأثرك في حياته.. يتذكرك كلما شاهدك أو لمح صورتك بين صور الماضي الجميل.. فيحن إلى مواقفك ويشتاق للقياك ويرسم على لوحته «قبلة» كبيرة تعبر عن حبه العميق لذكراك.. نحن هكذا بالفعل أنستنا الحياة أطياف الأحباب الذين عاشرناهم في محافل الحب والعطاء.. أنستنا الحياة بتراتيلها المتعبة، وأحوالها وتصاريفها وأمواجها العاتية، بأن نكون ذلك الظل الظليل لأناس لهم فضل علينا في شواهد الحياة..
وفي المقابل هناك من رسمك في مخيلته، وبات يتذكرك في دعائه وجميع أحواله.. فلك شأن كبير في حياته.. مهما كبرت مساحات حياته.. فلك أثر يعتز فيه.. ليس من أجل نفسك.. لأنك مهما افتخرت بها.. فهو فخر دنيوي عابر.. ولكن من أجل أجر أخروي تسعى لأن تكون أكبر المستفيدين منه في مراتب الجنة الغالية..
يبقى «الوفاء» كلمة صعبة في قاموس الحياة، فطوبى لمن عرف طريقها في حياته، وكانت له صولات وجولات مع من ارتقى معهم سلم المعالي.. وهو لايزال يقطف معهم قطوف الخير.